يوم قال بريجينسكي للمجاهدين «إنّ الله معكم»
الأخبار- حسام عبد الكريم
منذ هجمات 11 ايلول/ سبتمبر وما بعدها تقمّصت أميركا ثوب الضحيّة الأولى للإرهاب في العالم. أعاد إعلامها الجبّار المتحكّم صياغة العالم وما فيه على أساس ثنائيّة الأخيار/ الأشرار وإمّا معنا أو ضدّنا، على اعتبار أن الإرهاب والإرهابيّين شرّ مطلق قبال الأميركي الخيّر المكافح للإرهاب بلا هوادة. شنّت أميركا حروبها وغزت دولاً وشعوباً تحت تلك اللّافتة.
ولكن هل أن أميركا اليوم هي المكافحُ الصّلب للإرهاب والإرهابيّين في العالم؟ صحيحٌ أنّها تقوم بشنّ غاراتٍ متفرّقة على هدفٍ لداعش هنا أو القاعدة هناك، كلّ شهر أو شهرين، ولكن هل ذلك يعني أنها مكافح مبدئيّ للإرهاب؟ التاريخ الحديث يُجيبنا ويخبرنا: كلّا، لا يحقّ لأميركا الادّعاء بأنها مكافح الإرهاب الأول في العالم كما تحاول أن تروّج لنفسها اليوم. أميركا لم تكن يوماً مبدئيّة في تعاملها مع الإرهاب، بل كانت دوماً تتعامل مع الإرهاب والإرهابيين من منطلق نفعيٍّ براغماتيٍّ انتهازيّ، تستغلّه وتستعمله وتستفيد منه حين يكون في صالحها وضدّ أعدائها، وتحاربه حين يضرّ بها. الإرهاب بالنسبة لأميركا، كما كل شيء، مسألة «بيزنس» وتجارة، وحسابات ربح وخسارة.
ولا بدّ في هذا المقام من تذكّر زبغنيو بريجينسكي. ذلك البولّندي الذي وُلد ونشأ في فترة صعود النّازية في ألمانيا والحرب العالمية الثانية التي أسفرت في نهاية المطاف عن سقوط بولّندا، بلده، تحت هيمنة ونفوذ الاتحاد السوفياتي. حياته المبكّرة تلك ولّدت في كيانِه كرهاً عميقاً للشيوعية وللاتحاد السوفياتي ولروسيا، ظهر في كلّ مراحل مسيرته الأكاديميّة والمهنيّة منذ بداية استقراره في أميركا إلى أن وصل إلى منصب مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر. وبتلك الخلفيّة تولّى بريجينسكي ملف أفغانستان بعد الغزو السوفياتي عام 1979، ليصبح هو فعليّاً المؤسّس والأب الرّوحي والمشرف على إطلاق برنامج «الجهاد» الإسلامي في أفغانستان. والكلام عن البرنامج الأميركي لصناعة ورعاية «المجاهدين» في أفغانستان يطول ولا تسعه مقالة أو اثنتين فلن ندخل بتفاصيله هنا ولكننا سوف نشير إلى نقطةٍ في مساره تصلح أن تكون «الحبكة» في مسرحيةٍ من نوع الكوميديا السوداء؛ وذلك عندما جال بريجينسكي على مواقع «المجاهدين» الأفغان في منطقة وادي خيبر وألقى فيهم خطبة حماسيّة اختتمها بقوله «إن الله معكم» وسط هتافات الله أكبر التي أطلقها الأفغان المتحمّسون. والفيديو موجود على اليوتيوب وسنضع الرابط له في نهاية المقال (ويظهر فيه إلى جانب بريجينسكي وارين كريستوفر الذي سيصبح وزير خارجية بيل كلينتون).
ومع هزيمة كارتر الانتخابية سنة 1980 انتهى دور بريجينسكي المباشر في أفغانستان، ولكن الملف بأكمله انتقل إلى مهووسٍ آخر لا يقلّ عنه حماساً «للمجاهدين». إنه رونالد ريغان الرئيس الأميركي اليميني المولع بالحروب (والذي رغم جهله و ضآلة مستواه الثقافي والفكري يعتبره الأميركيون من أعظم رؤسائهم قدراً). فهو الذي سخّر إمكانيّات أميركا الهائلة العسكرية والاستخباراتيّة والماليّة لدعم كافة أنواع «المجاهدين» في أفغانستان بهدف إلحاق الهزيمة بالاتحاد السوفياتي وكسر شوكته هناك. وقد بلغ حماس ريغان لـ «المجاهدين» ذروته حين استقبل قياداتهم في البيت الأبيض عدة مرّات ما بين سنة 1983 و 1987 وفرش لهم السّجاد الأحمر بل وأطلق عبارات وأوصاف رومانسية بحقهم من قبيل «مقاتلون من أجل الحرية». وبلغ به الأمر أن يخصّص إطلاق مكّوك الفضاء كولومبيا شرفياً «للشعب الأفغاني الذي كفاحُه يمثّل أعلى درجات طموح الإنسانية نحو الحرية»، حسب تعبيره. وأمّا ميدانياً فقد وصل الأمر به إلى تزويد «المجاهدين» بأكثر تكنولوجيا صواريخ متطوّرة في العالم آنذاك وهي صواريخ ستينغر التي كانت قادرة على إسقاط المروحيّات السوفياتية بسهولة.
ولأن الأرشيف لا يمكن محوه، فستبقى لقاءات بريجينسكي وريغان مع المجاهدين الأفغان شاهداً على انتهازيّة أميركا ولا أخلاقيّتها ودورها في صناعة الإرهاب وتفريخ الإرهابيين الذين ظنّت أن بإمكانها السيطرة عليهم والتلاعب بهم كما تشاء. وفي عالم البراغماتية الأميركية عديمة المبادئ لا بأس أبداً أن يصبح يونس خالص وبرهان الدين رباني وحقاني وبقية رفاقهم عند ريغان «مقاتلين من أجل الحرية» وهم الذين فرّخوا بعد قليل طالبان وبن لادن والقاعدة… وصولاً إلى داعش التي تُشيطنها أميركا اليوم.
في ذكرى هجمات 11 سبتمبر، على أميركا أن تتذكّر رجالها هي، الذين جمّعوا وموّلوا ودرّبوا وسلّحوا ونظّموا
«المجاهدين» في أفغانستان. على أميركا أن تتذكر رونالد ريغان ووليام كيسي وزبنغيو بريجينسكي، قبل أن تتذكّر أسماء ضحايا أبراج نيويورك الثلاثة آلاف.