من أفغانستان إلى الشرق الأوسط: تداعيات الانسحاب الأمريكي وانتصار “طالبان”
كاثرين ويلبارغر, هارون ي. زيلين, پاتريك كلاوسون
يناقش ثلاثة من خبراء معهد واشنطن تداعيات الانسحاب الأمريكي من كابول، حيث يركزوا بشكل خاص على عواقب هذا القرار على الجهاد العالمي والسياسة الإيرانية ورد الفعل الإقليمي.
“في 19 آب/أغسطس، عقد معهد واشنطن منتدى سياسي افتراضي مع كاثرين ويلبارغر وهارون زيلين و پاتريك كلاوسون. وويلبارغر هي زميلة زائرة في “زمالة روزنبلات” في المعهد ونائبة مساعدة سابقة لوزير الدفاع الأمريكي لشؤون الأمن الدولي. وزيلين هو خبير في الحركات الجهادية العالمية، وزميل “ريتشارد بورو”. وكلاوسون هو “زميل مورنينغستار” الأقدم ومدير الأبحاث في المعهد ومتخصص في الشؤون الإيرانية. فيما يلي ملخص المقررة لملاحظاتهم”.
كاثرين ويلبارغر
ما يحدث اليوم في أفغانستان هو حصيلة عقودٍ من التاريخ والديناميات المحلية والإقليمية والدولية المعقدة. وحيث أن السنوات العشرين التي أمضتها الولايات المتحدة في المنطقة تنطوي على دروس كثيرة، يتطلب تحديد كيفية تطبيق تلك الدروس ومكان تطبيقها دراسةً متأنية.
لا يخفى أن الأوضاع الراهنة تحفل بالتحديات. فانسحاب أمريكا قد يقوض مصداقيتها في شراكاتها الأمنية العالمية، بما فيها شراكاتها في الشرق الأوسط. كما أن طبيعة الانسحاب المشوبة بالاضطرابات تسلط الضوء على التكاليف المترتبة عن إنهاء الالتزامات الجارية. ولعل هذه اللحظة تتيح التفكير في العيوب التي تلفت إليها الانتقادات الشائعة لما يسمّى “الحروب الأزلية”.
في الوقت نفسه، للعلاقات الإقليمية القوية فوائدها، وإحداها هي أن أوقات الأزمة تشكل فرصة لتعزيز المصالح المتبادلة. من هنا، عند التطلع إلى المستقبل، يجب على إدارة بايدن التركيز على الخطط القابلة للتنفيذ والداعمة للشركاء في الشرق الأوسط –على غرار إطلاق البرامج المشتركة أو تعزيز التعاون في المجال السيبراني. وفي العراق بشكل خاص، أكّدت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون على مصلحة مشتركة في تحقيق الأمن والاستقرار عبر مهام التدريب والتجهيز وتكثيف وجود “الناتو”. عساها تفكر في ما يمكن فعله لدعم الشركاء الأمنيين في سوريا.
أحد أسباب الانسحاب من أفغانستان هو تسهيل نقل الموارد لتلبية الأولويات الأمريكية الأكثر إلحاحاً على صعيد المنطقة والعالم. لكن يبدو أن ما حدث حتى الآن أقرب إلى العكس: فمع استيلاء “طالبان” بالقوة على السلطة ومحنة اللاجئين التي تتصدّر العناوين، يتعذر على المسؤولين الأمريكيين إشاحة نظرهم، وعن وجه حقّ. ولكن لا يمكن تجاهل القيود المرتبطة بالموارد إلى ما لا نهاية – وبعد عقود من انخراط الولايات المتحدة على الأرض في أفغانستان، بات يتوجب عليها تقسيم وقتها وطاقتها بطرقٍ تعكس الأهداف الاستراتيجية الراهنة بشكل أفضل. ومن شأن الاستثمار في العلاقات مع الشركاء الإقليميين الآخرين أن يقوّي مقاربة الولايات المتحدة للقضايا العالمية مع الاستمرار بدعم الاستقرار العام في الشرق الأوسط.
هارون زيلين
ستلعب أربعة عناصر رئيسية دورها في رسم معالم النشاط الجهادي المتعلق بالانسحاب من أفغانستان، وهي تعبئة المقاتلين الأجانب، وطريقة تفاعل الجماعات المتطرفة الأخرى مع سيطرة “طالبان”، وهوية السجناء المحرَّرين، وإلى أي درجة ستعود الشخصيات الرئيسية في تنظيم «القاعدة» إلى الساحة الأفغانية.
بالنسبة إلى العنصر الأول، تغيرت الخصائص السكانية الجهادية في أفغانستان بشكل كبير منذ أن بدأ تنظيم «القاعدة» للمرة الأولى بجذب اهتمام الرأي العام في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين. وبخلاف تركيبتها الأولى المؤلفة من أكثرية عربية، يتألف أعضاؤها اليوم بأغلبهم من الأفغان المحليين وأفراد من شبه القارة الهندية والدول المجاورة وجنوب شرق آسيا.
أما بالنسبة إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» (“داعش”)، فهو يُبقي مجموعةً من المقاتلين الأجانب في أفغانستان منذ عام 2015 (وإن كان أصغر بكثير من تنظيم «القاعدة»). وقد تحاول “داعش”، وهي العدو التاريخي لحركة “طالبان”، أن تستفيد الآن من مكاسب خصمها فتسعى إلى تكثيف حملة التجنيد عبر تقديم نفسها بصورة «الدولة الإسلامية الأفغانية» الشرعية صاحبة الحق. بعبارة أخرى، لا مفر من حملة تعبئة جهادية أخرى – والسؤال الذي يُطرح ليس ما إذا كانت هذه الحملة ستحدث، بل إلى أي مدى ستكون كبيرة. ويبدو منذ الآن أن قوات “داعش” تكثف هجماتها على وحدات ” طالبان” كما رأينا في ولاية ننجرهار قبل سقوط كابول بوقت قليل.
في ما يتعلق بردود فعل الحركة الجهادية عموماً، سبق لعدة جماعات وعناصر أن أشادوا بنجاح “طالبان”. وفي حين جاء محتوى تلك التصريحات المهنّئة متفاوتاً (على سبيل المثال، أعربت الجماعة السورية «هيئة تحرير الشام» عن رغبتها في تكرار عملية الاستيلاء على كابول في دمشق)، ردّدت بمعظمها الفكرة الرئيسية نفسها، ألا وهي أن انسحاب القوات الأمريكية المتزامن مع انهيار مؤسسات الدولة يدلّ على قيمة “التقوى” الجهادية والمثابرة.
لكن الاستثناء الملحوظ لسيل الدعم هذا هو شبكة «القاعدة» التي بقيت حتى الآن صامتة بشأن كابول، أقله على قنواتها الرسمية. ومن الممكن أن يكشف التنظيم عن معلومات أدق عن مواقفه وعن مكان وجود الزعيم أيمن الظواهري خلال الأسابيع المقبلة، خصوصاً مع اقتراب الذكرى العشرين لهجمات 11 أيلول/سبتمبر.
من ناحية تحرير السجناء، تعمل “طالبان” على تحرير أعدادٍ كبيرة من الجهاديين المتواجدين داخل السجون. وحتى الآن، لم تحدد الحكومة الأمريكية هوية الأفراد الذين تم إطلاق سراحهم وأولئك الذين لا يزالون في السجن، لذلك من المعقّد تقدير كيف ستستفيد الجماعات الجهادية من تحرير السجناء.
يبدو في المرحلة المقبلة أن تنظيم «القاعدة» هي التنظيم الذي ينبغي مراقبته بعد صعود “طالبان”. بفضل الأحداث الأخيرة، أصبح التنظيم في وضعٍ يخوّله إعادة تكوين نفسه مع أنه يصعب تقدير عدد العناصر الذين بقوا داخل أفغانستان وهويتهم، بالرغم من توفر بعض المعلومات عن شخصيات بارزة. فإلى أي مدى ستحاول شبكة «القاعدة» الدولية المنتشرة معاودة دخول البلاد بعد أن وصلت “طالبان” إلى السلطة؟ ربما يعود العناصر المنتمون إلى تنظيم «القاعدة في سوريا» – على الأقل أولئك الذين نجوا من حملة القمع التي شنتها «هيئة تحرير الشام» والضربات التي نفذتها الولايات المتحدة بواسطة الطائرات المسيّرة- إلى أفغانستان. وربما يعود سيف العدل، المرشح خلفاً للظواهري، إلى هناك من إيران. مهما حدث، من المرجح أن تكون قدرة واشنطن على اعتراض المؤامرات الإرهابية في وقت باكر محدودة إلى حدٍّ ما بسبب افتقارها إلى المعلومات الاستخباراتية من الأرض، بالرغم من التطور الكبير في الآليات الأمريكية الراهنة لمكافحة الإرهاب.
پاتريك كلاوسون
هناك أسبابٌ كثيرة تدفع إيران إلى معاداة “طالبان”. ويعود التوتر بين الطرفين إلى ما قبل قيام الجمهورية الإسلامية حين بدأت إيران تنافس على حقوق المياه بأطول نهر في أفغانستان. فخلال تسعينيات القرن الماضي، قدمت إيران دعماً قوياً لعدو “طالبان” المعروف بـ “التحالف الشمالي”. وفي عام 1998، قتلت “طالبان” دبلوماسيين إيرانيين أثناء اجتياحها شمال أفغانستان، ما دفع طهران إلى حشد أكثر من 200 ألف جندي استعداداً للغزو. وذبحت أيضاً “طالبان” أفراداً من جماعة الهزارة العرقية، وهم من الطائفة الشيعية نفسها التي تهيمن على إيران. فضلاً عن ذلك، يسيطر أعضاء “طالبان” إلى حدٍّ كبير على تجارة الأفيون في أفغانستان، وهو ما كان له تأثير مدمّر على سكان إيران.
مع ذلك، يبدو أن طهران غيّرت وجهة نظرها إلى حدٍّ ما خلال العقد المنصرم تقريباً. فالمرشد الأعلى علي خامنئي، الذي لطالما انتقد “طالبان” بحدة، لم يتحدث ضد الحركة منذ عام 2015. ويقول أيضاً الباحث البارز في شؤون أفغانستان بارنت روبين إن إيران كانت تمدّها بقدرٍ من المساعدة العسكرية على الأقل. فخلال زيارة الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني إلى كابول في عام 2018، أخبر الحكومة أن طهران كانت تزود “طالبان” بالأسلحة والذخيرة. هذا وتبقى إيران واحدة من أكبر شركاء أفغانستان التجاريين، ولا تزال نقاط عبورها الحدودية مستمرة بالعمل. وكذلك لا تزال سفارة إيران في كابول مفتوحة.
بالنسبة إلى رد طهران على الانسحاب الأمريكي، يشير الإعلام المحلي إلى أن النظام يركز بالدرجة الكبرى على موضوع الهزيمة الأمريكية بدلاً من سيطرة “طالبان” على البلاد. وقد تبين أن العداوة المشتركة تجاه واشنطن شكلت حافزاً قوياً دفع طهران إلى التعاون مع الجماعات السنية المتطرفة، حتى تلك التي ارتكبت المذابح بحق الشيعة (على سبيل المثال، تنظيم «القاعدة في العراق»). ولم ينتهِ هذا التعاون إلا بعد أن أصبح القادة الإيرانيون يعتقدون أن تلك الجماعات تشكل تهديداً للنظام نفسه. لذلك، من الممكن أن تتغير مواقفهم من “طالبان” بشكل حاد إذا بدا أن التنظيم يهدد قبضته على السلطة في الداخل، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
مع ذلك، سوف تبذل إيران في النهاية قصارى جهدها لوضع يدها بيد خصوم الولايات المتحدة، ويجب على واشنطن أن تحدد المقاربة التي ستنتهجها بناءً على هذه الحقيقة. فمن المستبعد جداً أن تتخلى طهران عن هدفها بزعزعة استقرار المنطقة ونشر الصواريخ التي تهدد الأهداف الأمريكية والحليفة، لذلك لا يجدر بواشنطن أن تهدر طاقة لا داعي لها لمحاولة الحد من هذه الأعمال (بدلاً من الدفاع ضدها / الرد عليها). والأولوية الأهم هي فرض قيود نووية أقوى وأطول مدةً لأنه ليس من المستصوب التوقع من الجمهورية الإسلامية أن تتخلى عن طموحاتها النووية يوماً.