ظهر العديد من الروايات والأعمال الأدبية الأخرى عن 11 أيلول، لكنها تكشف جميعها عن تحدي هذا الحدث لمحاولات التمثيل. أحد الأسباب المهمة هو وفرة الصور: تقترب الصور التلفزيونية للبرجين المنهارين من مرئيات أفلام الكوارث الهوليوودية، ولكن ربما كان الأهم من ذلك، أن نيويورك ككل بدت متأثرة بهذا “الجرح” (جاك دريدا) . بالنّسبة للكتاب والمثقفين، كانت نيويورك “المدينة التي يجب رؤيتها” (لوثار مولر)، ولذلك كان من المنطقي أن يكون هناك كاتب ما في المدينة في ذلك الوقت، غير أن مقاربته للمدينة لن تخرج عن مقارنة صورتها القديمة بتلك الموجودة بالفعل.
في ظهيرة يوم 11 أيلول 2001، عاد الكاتب الألماني أولريش بلتسر إلى منزله في برلين ليجد رسالة من نيويورك على جهاز الرد الآلي الخاص به. سمع شيئاً عن حربٍ وذعر، عن رعبٍ بأبعاد لا يمكن تصورها، وبينما كان لا يزال يحاول الحصول على رؤية واضحة، نشأ في داخله شعور بأن “شيئاً لا مثيل له قد حدث”. في العام التالي، كانت روايته “حديقة بريانت” واحدة من أول ردود الفعل الأدبية على هجمات 11 أيلول. الحدث الذي ولّد حاضرنا إلى حدّ كبيير صدَّر في حينه انطباعاً بتجاوزه للحاضر: كان كارثياً بامتياز، وعسير الفهم، وامتلك أيضاً روعةً واستثنائيةً بطريقة بدت كأنها تتحدّى المعالجة. في الأخير، توارت الهجمات نفسها بشكل سريع نسبياً بسبب تعامل السياسيين، الذين أعلنوا “الحرب على الإرهاب”، في ردّ فعل نموذجي يليق بمرحلة ما بعد الصدمة.
وهكذا، في الوقت الحالي، يبدو أن ردود الفعل المبكرة قادت الطريق حتى هذه اللحظة، بربطها 11 أيلول بعدم القدرة على التمثيل. توني موريسون صرّحت بغنائية أنها لا تملك كلمات أقوى من الفولاذ الذي سحق الضحايا في مركز التجارة العالمي، وكتبت أنه لا يوجد شيء مكتوب يمكن أن يكون “أقيم أو أكثر أناقة” من الذرّات التي صارها الضحايا. هذا تفسيرٌ أدبي كلاسيكي للتراجع عن حدثٍ يأخذ، في عمل موريسون، أبعاداً تاريخية-طبيعية، لكنه يختفي فيها أيضاً. له مكانته كردة فعل عفوية، لكنه، مثل كل المحظورات المفروضة على النصوص والصور، لم يلتفت إليه بالطبع.
(بول اوستر)
ليست توني موريسون وحدها مَن اختارت الابتعاد عن تناول الحدث الفارق، بل غيرها من أبرز أسماء المشهد الأدبي الأميركي. لم يشر بول أوستر إلى أحداث ذلك اليوم وما تلاه في روايته “ليلة” الصادرة في العام 2003. حتى دون ديليلو، الرؤيوي العظيم، الذي توقّع هجمات إرهابية مثل هذه في روايات مثل “ماو الثاني” أو “سبع ثوانٍ”، التزم الصمت حيال ذلك في روايته “كوزموبوليس” الصادرة عام 2003. ولكن كما جاء في “ماو الثاني”: “الروائيون والإرهابيون مرتبطون برباط غريب. (…) قبل سنوات، اعتقدت أن بإمكان الكاتب أن يغيّر طبيعة الثقافة. الآن صانعو القنابل والمسلّحون احتلوا تلك المساحة. إنهم يغزون الوعي البشري”.
يمكن تفسير صمت ديليلو في “كوزموبوليس” بما كتبه هو نفسه في مقالٍ بعد وقتٍ قصير من 11 سبتمبر: “الكاتب يريد أن يفهم ما فعله بنا ذلك اليوم. يحتاج الأدب إلى وقت ومسافة – بغض النظر عمّا يمور به الحاضر، أو مقدار الضغط الذي قد يتعرض له من الخارج”. أما سؤال أين هي رواية 11 أيلول العظيمة، فالردّ عليه بسيط: أين هي الرواية الكبرى المنادى بها في 1990 بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أو حتى رواية كورونا العظيمة التي تكرّر البحث عنها في الفضاء الأدبي والإعلامي طوال العام الماضي؟
من أعراض مقاومة هذا الضغط ما قاله الكاتب الألماني بيتر غلاسر بعد فوزه بـ”جائزة إنغبورغ باخمان” في عام 2002 من خلال كتابه “قصة لا شيء”: “لقد حاولت معرفة ما يمكن أن يفعله الأدب لمواجهة أحداث 11 أيلول. كان هذا أحد دوافعي لكتابة هذا النصّ: أن أذكر 11 أيلول بجملة واحدة فقط”.
في الأدب الأميركي، استمر عدم كتابة هذه الجملة الواحدة. لكن الحدث بدأ ينعكس في هيكل وتكوين بعض الروايات. بروايته “حماقات بروكلين” كتب بول أوستر روايته الأكثر بهجة وتسلية وخلواً من الهموم، وتخلياً عمّا ميّزه في جميع كتاباته السابقة. تنتهي الرواية في الصباح الباكر من يومٍ جميل باهر من أيام أيلول 2001. شيء مماثل يحدث في الرواية الثالثة ضمن سلسلة روايات فرانك باسكومب لريتشارد فورد، “حال البلد”. تُظهر الرواية بطلها في صورة مغايرة لما كان عليه سلفيه السابقين (الرجل المسالم يتحوّل للدخول في شجار داخل حانة) وتنتهي أيضاً قبل وقت قصير من 11 أيلول.
البرجان المنهاران، وانعدام الأمن المفاجئ في الولايات المتحدة، و”الحرب على الإرهاب” التي أُعلن عنها.. كل هذا أنتج نوعاً من القطيعة، هدنة سردية، كما أراد أوستر وفورد أن يشيرا بنهاياتي روايتيهما.
حينها، سيطر على الأدب مزاج غريب ومأساوي، خاصة في تناول الساعات التي أعقبت الهجمات، والقبول الضمني للقوة الهائلة للصور، والتفاف الجمالي على كل شيء. ذهب جوناثان سافران فوير إلى أعماق الزمن في عام 2005 بروايته الثانية “عال جداً وقريب جداً”، وربط أحداث 11 أيلول بليالي قصف دريسدن عام 1945 من منظور طفل يبحث عن آثار والده، الذي كان من بين الضحايا، ومن خلال قصص عائلية مختلفة. في نهاية روايته تنتشر صورة لشخص يقفز من مركز التجارة العالمي. إذا قمت بتقليب هذه الصفحات بسرعة، ستجدها في الواقع كتيباً يُظهر هذا الرجل قافزاً إلى الوراء على مركز التجارة العالمي، كما لو أن الوقت يمكن إيقافه، والكارثة يمكن منعها.
إيان ماك إيوان
في روايته “السبت” الصادرة عام 2005، يصف الكاتب البريطاني إيان ماك إيوان يوماً في حياة جرّاح دماغ، 15 شباط 2003، وهو اليوم الذي جرت فيه مظاهرة سلمية كبرى في لندن ضد الحرب في العراق. وبقدر ما يعكس بطل الرواية رؤية ماك إيوان نفسه، فإنه يحاول – وإن لم ينجح – حماية ما يهمّه من الإرهاب، تحت شعار مفاده “من الأفضل التسوّق بدلاً من الصلاة”. من ناحية أخرى، جون أبدايك، الذي اهتم دائماً بالجوانب الدينية، في ردّ فعل عفوي لمجلة نيويوركر في 24 أيلول 2001، وضع لنفسه نهجاً مشابهاً لتوني موريسون، لكنه قدّم أيضاً مَخرجاً: مع حدث بهذا “الحجم الرهيب”، فإن مهمة الأدب ليست “اختزاله إلى ضآلة المؤلف نفسه”. حاول بروايته “الإرهابي” الصادرة عام 2006 خوض رحلة داخل عقل رجل دين متطرف، لكنه فشل ببراعة.
فيليب روث وبنجامين كونكيل أيضاً أدخلا هجمات الحادي عشر من أيلول في روايتيهما دون الظفر بأي شيء من الحدث. بطل رواية روث المعنونة “كل رجل”، يبتعد عن نيويورك، ويبحث عن مأوى في كوخ قديم على ساحل نيوجيرسي؛ فبالنسبة له، فإن أحداث الحادي عشر من أيلول هي “بداية ضعفه وسبب نفيه”. وفي رواية كرونكل “غير محدد” يشهد الراوي انهيار البرجين في انتشاء مجنون، من الشرفة، لكنه يعيش بعد ذلك “كما لو أن ما حدث كان طبيعياً أو جرى من تلقاء نفسه”.
(دون ديليلو)
في الأخير، كان دون ديليلو مرة أخرى، ومن بين جميع الأسماء، كاتب البوب النيويوركي جاي ماكينيرني، اللذان استهدفا في العام 2007 مركز الرعب مباشرة، باستحضار “روح التهديد المستمر” (ديليلو) والصور المُشاهَدة مراراً وتكراراً بعد الهجمات. لكن هذه المرة، لم يتعلّق الأمر بصور الطائرات التي اخترقت برجي مركز التجارة العالمي، بل بالعديد منها في ما تلا ذلك: “اتخذ خطوة ثم التي تليها حيث تصاعد الدخان فوقه. شعر بقطعٍ تحت قدميه وكان كل شيء يتحرك، كان هناك أشخاص يركضون والأشياء تطير في كل مكان، كما جاء في رواية ديليلو “الرجل الساقط”.
سُميت الرواية على اسم الرجل الذي سقط من البرج الشمالي لمركز التجارة العالمي في صورة شهيرة انتشرت له حينها، مرتدياً بنطالًا أسود وقميصاً أبيض. في الرواية، يعيد فنان حركة/بهلوان بناء صورة الرجل الساقط، نازلاً من أسطح المنازل بزيّه إياه وحبلٍ يحفظ توازنه. بهذه الطريقة، يشير ديليلو إلى فنان الحركة المشهور فيليب بيتي، الذي سار بشكل غير قانوني على حبل مشدود بين برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في العام 1974، وفي الوقت ذاته يقدّم صورة رمزية لغطرسة محاولة صنع الفن من الرعب. مثل أعماله السابقة، اهتمت هذه الرواية موضوعياً بالطبيعة الرمزية للعنف الإرهابي كما تصوّره وسائل الإعلام، كما التفت سردها لدراسة إمكانيات إعادة اختراع الهوية الفردية، بالإضافة إلى ميل الأفراد لبناء هويّاتهم من خلال عقلية المجموعة.
في رواية جاي ماكينيرني عن أحداث 11 أيلول، والتي تحمل عنوان “الحياة الجيدة”، يصف أحد أبطالها المشهد في شوارع نيويورك في ذلك اليوم : “في صباح أمس وبعد الظهر، سار الآلاف على هذا النحو في غرب برودواي، هاربين من عمود الدخان المائل، المغطى بالرماد نفسه، وهم يتنقلون بأقدامهم عبر الغبار، بينما تنهمر عليهم الأوراق من سماء زرقاء غامقة، نسخة شيطانية من عروض القصاصات القديمة في برودواي”.
اسم بطل ديليلو هو كيث نيوديكر، الذي نجا بالكاد من هجمات 11 أيلول ليدخل دوامة تأثيرات تجارب ذلك اليوم على حياته بعد ذلك. يعود إلى زوجته وابنه، بعد عدة أشهر من الانفصال، دون بداية جديدة. في رواية ماكينيرني، العكس هو الصحيح: هنا، يلتقي رجل وامرأة، كلاهما من عالم الفن وسوق الأسهم في مانهاتن، في اليوم التالي للهجمات. علاقة الحب الناشئة تصبح أسهل بفضل تداعي حياتهما الزوجية، وبالتالي تتخذ حياتهما معاً منحى جديداً.
الشخصيات في كلتا الروايتين تبيّن مفاعيل الصدمة بطريقتين مختلفتين. في حالة ديليلو، تفقد في النهاية كل أمل في حياة أفضل، بينما في رواية ماكينيرني، فإنها ترى طريقها بشكل أكثر وضوحاً، على الأقل فيما يتعلق بمشاكلها الخاصة. على أي حال، يبدو أن صور الهجمات أدّت إلى نفي الروايتين في مكان بعيد.
كانت الولايات المتحدة قد استقرت على “الحرب على الإرهاب”، وأضحى بإمكان عملية التعامل مع الصدمة أن تبدأ على انفراد، وكل واحد يبحث عن نفسه. ولكن هل كانت هناك بالفعل قطيعتة أدبية مع الهجمات، هل أجبرت أحداث 11 أيلول الأدب لولادة نوع مختلف من الكتابة؟ ربما لا: “الرجل الساقط” تعتبر واحدة من أكثر روايات ديليلو تقليدية، ورواية ماكينيرني تقليدية بطبيعة الحال استغرق الأمر بعد ذلك بعض الوقت للتغلب تدريجياً على شلل الصدمة، وأيضاً فيما يتعلق بسياسات الهوية، ولواحق “الحرب على الإرهاب”. كان من الواضح أن الهجمات حدث عالمي، ومفاعيله كذلك، لكن في أميركا كان ثمة ميل لتعزيز أساطير وطنية خالصة لا تريد النظر إلى عالميتها. أميركا التي أرادت رؤية نفسها كملاذ “للعدالة”، أعمت نفسها عن رؤية إلى أي مدى طوّرت عنصرية جديدة داخلها نتيجة أحداث 11 أيلول. كتبت إيمي والدمان رواية “المعماري الأميركي” (2011) حول هذا الموضوع، حيث تحدثت عن مسابقة لإحياء ذكرى في موقع مركز التجارة العالمي في عام 2003، يفوز بها مهندس أميركي مسلم. تمنح هذه الفكرة والدمان الفرصة لرواية بانوراما اجتماعية غنية لأميركا ما بعد الصدمة.
أخيراً، لعل أهم روايات هذه الأميركا المعاصرة جاء من إياد أختار، وهو ابن لمهاجرين باكستانيين من ولاية ميلووكي يمكن وصفه بالنسخة المسلمة من ميشيل ويلبيك. تصف روايته “مرثيات وطن” الصادرة عام 2020، بدقة شديدة عقليات ومشاعر عائلة تعيش في وقت واحد في الحاضر وفي أميركا وفي بلد المنشأ (وبالتالي دائماً في ماضٍ متخيَّل). لذا، بعد عشرين عاماً من أحداث 11 أيلول، يمكن القول أن الأدب تحمّل مسؤوليته بعد كل شيء. بدأ في حلّ الصدمة. لم تكن للسياسات الرجعية النصيب الأكبر من الاهتمام في خضم هذه الصدمة، بقدر مشهد القمع والعنصرية التي يمكنها الإفضاء إليه. يبدو كما لو أن قصة 11 أيلول قد رويت. لكن ربما يفكر الأدب حالياً في نقاط قوته: أي إيجاد نهج جمالي وسرد خاص لأحداث الحادي عشر من أيلول على مسافة زمنية أكبر بكثير. لذا، للبقاء مع ديليلو و”ماو الثاني”، يمكن انتزاع سيادة الإرهاب على الثقافة مرة أخرى.
لا يمكن للفنون والأدب والرواية بشكل أكثر تحديداً، بإمكانياتها في التماهي مع الآخرين وغيرهم، أن تسدَ جرح 11 أيلول، لكن بإمكانها إعطاء الألم تاريخاً.