على فرض صحة ما يقال عن صفة فرنسية – ايرانية تبلورت في الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي مع نظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون، انتجت ولادة الحكومة اللبنانية بعد تعثر في التشكيل لنحو 13 شهرا. يمكن القول انها صفقة قامت على معادلة “ربح – ربح” للطرفين.
فالرئيس الفرنسي بات بامكانه القول بان المبادرة التي اطلقها قبل 13 شهرا كخريطة طريق لحل الازمة اللبنانية قد نجحت وأثمرت حكومة تتمثل فيها جميع الاطراف من المفترض ان تتحمل عبء التعامل مع مؤتمر دعم لبنان الذي قادته باريس وكذلك مسؤولية التفاوض مع البنك الدولي واجراء الخطوات الاصلاحية المطلوبة للنهوض بالواقع اللبناني الاقتصادي والمالي والسياسي المنهار او القريب من السقوط. ومن باب التذكير فان المبادرة الفرنسية التي يتمسك بها جميع الاطراف اللبنانيين سبق ان وافق فيها الرئيس الفرنسي في اجتماع قصر الصنوبر على مشاركة حزب الله في الحكومة، مخالفا رغبة حلفائه واصدقائه الامريكيين والعرب واللبنانيين في تمسكهم بحكومة لا يتمثل فيها الحزب.
الغزل الذي مارسه ماكرون مع حزب الله في آب 2020 أثمر تعاوناً ايرانياً سمح بولادة الحكومة اللبنانية. الا ان التعاون الايراني لن يكون مجانا او هبة من دون مقابل، خصوصا وان النظام الايراني، حتى الان لا يرى نفسه ولا حليفه حزب الله محشورين في زاوية تفرض عليهما تقديم تنازلات لأي من الاطراف الدولية او الاقليمية. لكنه تعاون يدخل في باب اختبار ايراني للنوايا الفرنسية حول مستقبل التعاون بينهما في ملفات تتجاوز الملف اللبناني.
المسار الذي تأخذه الاحداث السياسية في لبنان والعراق، تحمل على الاعتقاد بوجود شراكة فرنسية ايرانية غير معلنة. فالطرف الايراني كان بحاجة الى الغطاء الفرنسي لتمرير الحكومة اللبنانية التي يريدها، اذ شكلت مبادرة ماكرون الغطاء لها والمدخل الذي كرس دور حزب الله الحكومي. وبالمستوى نفسه كان الفرنسي بحاجة للدور الايراني في اقناع حليفه اللبناني بممارسة ضغوطه لتسهيل ولادة الحكومة. فضلا عن توفير الاجواء السياسية التي سهلت عملية توقيع الحكومة العراقية على صفقات ضخمة تصل قيمتها الى 27 مليار دولار مع شركة توتال، وهي صفقات ومشاريع لن تكون قابلة للتنفيذ او الاستمرار من دون غطاء ايراني يبدأ من العراق ولا ينتهي في الاتفاق على آليات عودة انشطة الشركات الفرنسية في المشاريع الايرانية سواء تلك التي غادرتها نتيجة العقوبات الامريكية، او تلك التي تطمح للحصول عليها مستقبلا.
هذه الاندفاعة الفرنسية الايرانية للتعاون في ملفين يعتبران حقل اختبار للادارة الامريكية في معركتها لمحاصرة الدور الايراني في منطقة الشرق الاوسط، اي الملف العراقي والملف اللبناني، واذا ما كانت طهران قد عملت منذ عام 2001 واحتلال افغانستان وبالتحديد منذ احتلال العراق عام 2003 على تكريس مبدأ سياسة ملء الفراغ في لعبتها مع الادارات الامريكية المتوالية، فان المأزق الذي تمر به الادارة الامريكية الحالية والضغوط التي تعيش فيها، بانتظار ان تجد المخرج لها ومنها والمبادرة من جديد، دفع الطرف الفرنسي لاعتماد المبدأ نفسه، ومحاولة ملء الفراغ والبحث عن مخارج لازمات المنطقة تحت غطاء التنسيق مع واشنطن. وقد ساهمت في الاندفاعة الفرنسية تداعيات الانسحاب الامريكي من افغانستان، واعلان انهاء الوجود القتالي في العراق نهاية هذا العام وما يدور من حديث عن امكانية الانسحاب من سوريا لاحقا. وبالتالي فان التفويض الامريكي تلاقى مع رغبة باريس في استعادة دورها في مناطق نفوذها التاريخية وان تعود للعب دور فاعل في رسم سياسات الشرق الاوسط.
لكن السؤال، اذا ما كان الفرنسي يسعى ليكون المفوض عن الامريكي في تفكيك مناطق التوتر في الشرق الاوسط، من دون اسقاط الرغبة بان يكون البديل الكامل عنه، فهل هذا يعني ان الفاعل او اللاعب الايراني قد سلم اوراقه لباريس ووافق على ان يقدم لها ما لم يقدمه للامريكي؟ وهل ان التعاون الايراني في العراق ولبنان من دون شروط او من دون مقابل عملي؟
لا شك ان الايراني يحاول اللعب على عامل الوقت في التعامل مع الادارة الامريكية التي تضغط عليه من اجل عودة سريعة الى طاولة فيينا لمفاوضات اعادة احياء الاتفاق النووي. والموقف الذي اعلنه وزير الخارجية الايرانية حسين امير عبداللهيان والمنسجم مع موقف الرئيس رئيسي، بان طهران قد تحتاج لاكثر من شهرين للعودة الى المفاوضات، هذا الموقف يأخذ بعين الاعتبار المستجدات التي شهدتها منطقة غرب آسيا، وتحديدا الانسحاب الدراماتيكي للقوات الامريكية ومعها قوات حلف النيتو من افغانستان، والذي وضع الادارة الامريكية في دائرة الاتهام بالتخلي عن كل الملفات في المنطقة والانسحاب منها من دون الاخذ بعين الاعتبار حسابات الربح والخسارة. وبالتالي فان طهران والنظام فيها ليسا في وارد تقديم “هدايا” لواشنطن مجانية، من خلال تلبية طلبها بالعودة الى طاولة التفاوض. خصوصا وان طهران قد وضعت معادلة واضحة امام المفاوض الامريكي تقوم على مبدأ العودة من دون شروط والتخلي عن كل العقوبات المفروضة عليها، واما انهاء الاتفاق النووي واعلان موته. والتهديد الامريكي بقرب اعلان انتهاء الاتفاق هو تهديد لا اساس له، لان واشنطن من وجهة نظر طهران لا يحق لها اعلان انتهاء اتفاق خرجت منه مسبقا.
وتعتقد طهران ان الحاجة الامريكية لاعادة احياء الاتفاق باتت امرا ملحا، لاعتقاد واشنطن بان النظام في ايران استطاع خلق مسارات جديدة للالتفاف على العقوبات، وان استمراره في تقليص التزاماته بعمليات تخصيب اليورانيوم قد توصل الامور الى نقطة اللاعودة بحيث تكون مجبرة على القبول بالامر الواقع، خاصة وان الوكالة الدولة للطاقة الذرية في تقريرها الاخير اعلنت ان مخرون ايران من اليورانيوم المخصب بدرجة 60 في المئة وصل الى نحو 10 كيلوغرامات، بدرجة 20 في المئة تجاوز 80 كيلوغراما، واهذه الانشطة تجري في ظل تضييق كبير على عمل المفتشين ومنع الوكالة من الوصول الى التسجيلات المصورة للانشطة التي تجري في المنشآت الايرانية. من هنا تأتي زيارة رئيس الوكالة الدولية رافايل غروسي الى طهران التي سبق لطهران في الايام الماضية جدولتها، وهي الزيارة التي تتزامن مع حديث عن امكانية ان يصدر مجلس حكام الوكالة قرارا يدين ايران بخرق الاتفاق وشروط التخصيب والتعاون مع الوكالة.
من هنا، فان التسهيلات الايرانية للدور الفرنسي في لبنان والعراق، مفتاحها باليد الايرانية. فاذا لم تلعب باريس دوراً ايجابياً في موضوع العقوبات والاتفاق النووي، فان طهران قادرة في اللحظة التي تريدها على وقف مسارات التعاون. وكما اجبرت الشركات الامريكية على مغادرة حقول النفط العراقية، قد تجبر شركة توتال على مغادرتها. وستكون قادرة مع حليفها اللبناني على اخراج “ارنب” الثلث المعطل في اللحظة المناسبة على الرغم من تأكيد رئيس الحكومة الجديد نجيب ميقاتي على عدم منحه هذا الثلث لرئيس الجمهورية. وبالتالي عودة الامور الى نقطة البداية، لكن مع متغيرات مفصلية ابرزها كسر المقاطعة اللبنانية ونوعا ما الامريكية والعربية للنظام السوري من بوابة البحث في آليات استجرار الغاز والكهرباء، التي اعطت الضوء الاخضر لانطلاقها السفيرة الامريكية في بيروت دوروثي شيا بايعاز من ادارتها في واشنطن، في لحظة وصفت من قبل حلفائها بالمتسرعة في توقيتها.