الكاتب: ابراهيم م. قرقوتي
مع انهيار لبنان من الداخل، هناك حاجة ماسة لإجراء إصلاحات مجتمعية وتعليمية كبيرة لتجنب المزيد من الانهيار.
لم يعد مفاجئًا أن العالم اليوم يعتبر لبنان دولةً فاشلة – بلد حصانات وإفلات من العقاب، وقلة كفاءة ،ومحسوبية، وفساد. لكن ما يبدو أن المجتمع الدولي يغفله في حديثه عن انهيار لبنان الحالي هو أن السياسة في لبنان محكوم عليها بالفشل منذ “اتفاق الطائف” – الموقّع في المملكة العربية السعودية في 22 تشرين الأول/أكتوبر 1989. فمع أن الاتفاق رعى التعايش وأتاح إلى حدٍّ ما عودة السلام والحياة السياسية الطبيعية بعد الحرب الأهلية التي دمّرت لبنان، إلا أنه رسّخ الوصاية السورية على لبنان حين شرّع وجود القوات السورية على الأراضي اللبنانية، وعزّز الطائفية السياسية في جميع أنحاء البلاد عبر إلغاء نظام الكفاءة واعتماد حكم الأسوأ والأدنى (الكاكيستوكرسي) وتمكين أمراء الحرب من السيطرة على كياناتهم السياسية السابقة من خلال تقسيم غنائم الحرب على زعماء الميليشيات. وبوجود طبقة سياسية فاشلة، يحتاج لبنان إلى إصلاحات مجتمعية هيكلية كبيرة إذا كان ليخلق جيلًا جديدًا من الزعامات السياسية اللبنانية. وفيما يصارع البلد اليوم لتأمين أدنى ضروريات الحياة، لا مفر في النهاية من إجراء إصلاحات واسعة النطاق لإخراج لبنان ممّا يمر به، وخصوصًا إخفاقات النظام التعليمي في البلاد.
في ظل “اتفاق الطائف”، تعمّدت الحكومات اللبنانية المتعاقبة تقويض المؤسسات العامة حيث كانت هذه الأخيرة تمثّل الأحزاب نفسها التي تورّطت خلال الحرب في جرائم حرب ضد أبنائها. وقد ساهم كلّ واحدٍ من الأحزاب الحاكمة في لبنان في انهيار الدولة عبر التغلغل في المجالَين العام والخاص بطريقة كاملة وشاملة، من التريبة والدفاع إلى الرعاية الصحية والمالية والإعلام والزراعة، والعدل، والسياسة الخارجية ،والتجارة. ونتيجة هذا الخلل، سارت الدولة اللبنانية على درب الدمار الذاتي وفق خطةٍ لا تكتفي بإيذاء الشعب، بل تزيد من قوة الزعماء الفاسدين الذين يقتاتون من الانقسامات الطائفية في لبنان.
ومن أجل تبرير الفساد والتمسك بالسلطة، غالبًا ما تركّز خطابات كبار المسؤولين في البلاد على التهديد المستمر من عدو لبنان التاريخي –أي إسرائيل- علمًا بأن هؤلاء القادة أنفسهم يقودون البلاد إلى الهلاك. وفيما يبدو أن لبنان يدير انهياره جيدًا، الأرجح أن تكون إسرائيل راضية بالوضع القائم وبتعاظم ضعف الدولة المجاورة لها. ويجب أن يدرك لبنان أنه من المستبعد أن تشن إسرائيل هجومًا كاملاً لأنها تدرك أن أي حرب مستقبلية مع لبنان ستكون مكلفة، بغض النظر عن الاختلال في موازين القوة بين البلدين.
بذلك، وبينما يزعم “حزب الله” وحلفاؤه في أكثر الأحيان أن وجودهم ضروري لحماية اللبنانيين من إسرائيل، فهذه الأحزاب هي التي فجّرت البلاد من الداخل منذ اغتيال رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري بعده عام 2005. وتشكل فعليًا هذه القيادة ذات النزعة التحولية الزائفة -المدعومة من “حزب الله”- أكبر كتلة نيابية وتضم في مجملها أكبر فروع إيران في المنطقة. لكنّ “حزب الله” ما كان ليفوز لولا دخوله في شراكة مع الجماعات السياسية الرئيسية في الانتخابات النيابية والبلدية والرئاسية السابقة. وبذلك، لم يوسّع السياسيون اللبنانيون الحروب بالوكالة في الشرق الأوسط فحسب، بل تركوا لبنان أيضًا معزولًا ومنفصلًا عن المجتمع الدولي.
والواقع أن كل الأحزاب السياسية التي شاركت في الحرب الأهلية أثبتت حرصها على إحباط الإصلاحات في لبنان بينما تصدّت لنشطاء المجتمع المدني في انتخابات 2018. وكان لهذا الإحباط دوره في اتخاذ ثورة 2019 شعار “كلّن يعني كلّن” (كلّهم كلّهم). فحين خرج اللبنانيون إلى الشوارع احتجاجًا على فساد الحكومة، رفعوا أصواتهم ليقولوا إن كل السياسيين اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم وولاءاتهم، مسؤولون مجتمعين عن انعدام الاستقرار السياسي وعن الخلل الاجتماعي والانهيار الاقتصادي في لبنان.
مع ذلك، لن تعالَج هذه القضايا الوجودية بفعالية – لا بل ستعاود الظهور، حتى لو تحسنت أزمة لبنان الراهنة – بدون إصلاحات تطال مستوى مجتمعيًا أعمق. فحتى لو لم تكن المنظومة السياسية في لبنان محكومة من الأحزاب السياسية الحالية، لما كان الشعب اللبناني قادرًا على الأرجح على معالجة مأزقه السياسي. والمؤسف هو أن السياسات الطائفية، مقرونةً بنظام تعليمي فاشل، تركت الغالبية الساحقة من اللبنانيين بدون حسٍّ بالهوية الوطنية أو حس انتماء أو تلاحم اجتماعي. وليست الأحزاب السياسية اللبنانية، ولا مناصروها، مستعدة للتضحية بأي امتيازات طائفية حصلت عليها بدون أن تستحقها، من أجل إنقاذ البلاد. ما عزز هذه المواقف هو تركيبةٌ تعليمية شائبة -يعود جزءٌ منها إلى أمراء الحرب والسياسيين الفاسدين الذين صاغوا السرديات التعليمية بما يخدم مصالحهم- لم تفعل شيئًا يُذكر لمصلحة أجيال ما بعد الحرب وأجّجت هجرة الأدمغة من البلاد.
على سبيل المثال، بما أن دستور لبنان الطائفي يوزّع المناصب في المؤسسات العامة والحكومية بين المسلمين والمسيحيين، غالبًا ما يجد الطلاب أنفسهم مجبرين على الالتحاق بجامعة يديرها أشخاص من الانتماء الديني والسياسي نفسه لضمان نجاحهم. وبالطبع، هذا يبطل مبادئ التعليم العلماني التي قامت عليها كل الجامعات الرسمية، ويقوّي ويطيل تأثير الطائفية الوخيم، ويؤثر سلبًا على معدلات التحصيل العلمي العالي لأن الاختصاصات التي تدرَّس في حرمٍ تابع لطائفة معينة قد تختلف عن الاختصاصات الموجودة في كلية أخرى تابعة لدين آخر أو طائفة أخرى. وعلى المنوال نفسه، تهيمن المحسوبية في الكثير من المدارس والجامعات الخاصة، حيث يوظّف السياسيون هيئة تدريس وموظفين من الخلفية السياسية نفسها من أجل توطيد سلطتهم على الساحة السياسية، كلٌّ داخل حزبه أو جماعته أو سلطته التشريعية.
وفي كثير من الأحيان، نجحت هذه الأنظمة التعليمية المنحازة والمدارس المختلة في تنمية التطرف في مجتمعاتها المحلية وساهمت في خلق حالة راسخة بوسعها وأد أي مبادرات إصلاحية في مهدها. ولذلك أصبح الكثير من اللبنانيين أعداء أنفسهم – وهم نتاج نظام طائفي عاجز عن التخلي عن الولاءات العشائرية التي حولّت ما كان يسمّى باريس الشرق الأوسط إلى مسرح فوضى وخروج عن القانون. من أجل إنقاذ لبنان حتى لا يكون مجرد وقود في أيدي عديمي الضمائر، والتعافي من الجروح المدنية القديمة، والقضاء على التعصب الديني، يجب على اللبنانيين التخلص من الطائفية والتوقف عن انتخاب معذّبيهم واحترام معتقدات الآخر والاعتراف بالآخر الذي يختلف عنهم في العرق والإثنية والثقافة – فهؤلاء كلهم يشكلون لبنان.
بالطبع لا يستطيع لبنان تلافي انهياره التام بدون إصلاحات كثيفة تعالج بعضًا من إخفاقات الدولة التي قامت بعد عام 1989. ومع أن مسائل كثيرة تستوجب الاهتمام في الوقت الحاضر، من الضروري عدم إغفال الإصلاحات التعليمية، فهي التي ستزوّد الشعب بقاعدة متينة للنضال من أجل أمة سيادية. وبالرغم من صعوبة الأمر، من اللازم والضروري للبنان أن يعمل على تحسين نظام تعليمه الرسمي ويعيد تكوين ثقافته المدرسية لتشمل مفاهيم التعددية والعلمانية والتنوع في كافة جوانب التدريب والتعلّم.
والخطوة الأولى في هذا المجال بالنسبة للقيّمين المحليين على التعليم والآملين في إحداث تغيير، هي الدخول في شراكة مع المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية لضمان تنفيذ مبادرات “التعليم للجميع” والهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، الذي يلتزم به لبنان. فضلاً عن ذلك، وحرصًا على تأمين الدعم المناسب لتطوير المعلمين وتحسين المدارس، يجب على المراقبين الدوليين التأكد من تحويل أموال المانحين مباشرةً إلى المدارس المتدنية الدخل وليس إلى الحكومة. والمهم بالقدر نفسه هو أن تدأب هيئات الاعتماد بانتظام على التحقق من التنوع في حرم الجامعات ومراقبة معدلات التحاق الطلاب بالجامعات الرسمية والخاصة إذا أرادت إيجاد بيئة تعلّم جامعة تنمّي حسّ الاستفسار المبدع والتفكير الذاتي والمشاركة المدنية.
واليوم، في ضوء تعهّد المجتمع الدولي بمساعدة لبنان، على جميع الدول تعزيز الدعم والتآزر بين كافة الجهات اللبنانية من أجل تأسيس نظام تعليمي صالح يربّي جيلاً جديدًا من معلّمين يتمتعون بحس الهوية الوطنية والوئام الاجتماعي والوحدة الوطنية. وحين يستوفي المعلمون اللبنانيون المتطلبات التعليمية للقرن الواحد والعشرين، تصبح المدارس والجامعات في لبنان قادرة على إعداد مواطنين مكتملين متوازنين يستطيعون المساهمة بتحويل وطنهم إلى بلد متطور. لكن ذلك يستوجب أن يدرك المواطن اللبناني أنه جزء من الحل الذي يعتبره الكثيرون بعيد المنال.