ناصر قنديل-البناء
– سيكون عبثياً أن يخرج الأطراف الذين تفجرت صفوفهم وتوزعوا المتاريس بعد بدء الانهيار قبل عامين، ليسجل كل منهم مكاسب صفه وخسائر الصف المقابل، مع ولادة الحكومة الجديدة، والقيام بجردة حساب لتثبيت صحة مواقفه والربح بالنقاط على الخصم المستجد خلال السنتين، فيخرج من يقول إن ولادة الحكومة تثبت أن رئيس الجمهورية وفريقه لم يكونا الطرف الذي تسبّب بتعطيل الحكومة عبر تهم التشبّث بالثلث المعطل، أو أن هذا الفريق قد ربح معركة نيل الثلث المعطل بفضل صمود وصبر رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر، أو أن يخرج الفريق المقابل ليقول إنّ التيار الوطني الحر الذي رفض منح الثقة لحكومة الرئيس سعد الحريري عاد ورضخ وسيمنحها لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، فيضيع الكثير من وهج ولادة الحكومة، التي تأتي في ظروف لا يملك فيها اللبنانيون، ومعهم المسؤولون في القوى الكبرى الذاهبة إلى الانتخابات خلال شهور قليلة، ترف تسجيل النقاط، فالحكومة آخر بوليصة تأمين يملكها اللبنانيون الفقراء والمقهورون، ومعهم السياسيون والمسؤولون الذين تسببوا بالأزمات أو الذين فشلوا بحلها، لأنّ الانهيار الكبير لا يزال وارداً، وفرصة الحؤول دونه رهن بتخطي الانقسام العدائي الذي تفجر في محاولة كل من الأطراف للتبرّؤ من المسؤولية عن الأزمة ورمي الآخر بها، ومحاولة ترتيب أوراقه الشعبية على قاعدة شد العصب الشعبوي والطائفي، وهو ما جعل التراجع عن السقوف العالية التي فقدت قيمتها مع المدى الذي بلغته الأزمة، محفوفاً بالمخاطر.
– ما شهدناه من ولادة للحكومة الجديدة حدث كبير، على رغم أنه لا يحمل ما يكفي من الأسباب لاعتباره طريقاً للخروج من الانهيار، لأن ما كان على المحك هو كيف نتفادى الأسوأ ليبقى الأمل قائماً ببلوغ الأفضل، والأسوأ كان ماثلاً أمامنا، وهو انحلال الدولة ومن ورائها انحلال وحدة المجتمع، والدخول في مرحلة الفوضى الاجتماعية وصولاً لتبلور الكانتونات، وأشكال الإدارات المحلية والأمنية الطائفية المغلقة للمناطق، لكن القلق من هذا الأسوأ على بشاعته ومخاطره، على رغم تحريكه بعض المبادرات الداخلية والخارجية، تحت ضغط قلق أوروبي من نمو التطرف والهجرة، وقلق أميركي على مصير المؤسسات العسكرية والأمنية، لكن هذه المبادرات بقيت بحدود تأمين شبكات أمان مالية للمؤسسات العسكرية والفئات الأكثر فقراً والنازحين، ولم تتحول إلى المسار السياسي إلا عندما أصبح الأسوأ بنظر الخارج، هو أن تتحول الحرب التي أعلنتها واشنطن بمباركة أوروبية وخليجية على حزب الله، منذ العام 2017 واحتجاز الرئيس سعد الحريري في السعودية، من الطريق المرسوم لها للضغط على حزب الله وفتح الباب لجلبه إلى طاولة التفاوض على سلاحه ودوره الإقليمي، إلى نتائج عكسية فيتسع حجم الدور الإقليمي لحزب الله وتظهر مفاعيل إيجابية على اللبنانيين لقوة سلاحه، وهو ما بدأ يتفاعل في واشنطن وعواصم الغرب وتنعقد حوله طاولات التقييم منذ إعلان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، عن انطلاق أول بواخر المحروقات الإيرانية نحو لبنان وربط حمايتها بسلاح المقاومة معلناً أنها قطعة أرض لبنانية.
– مثلما كان واضحاً أن الحرب الأميركية على لبنان كممر إلزامي للحرب على حزب الله، عبرت طريق تفجير الأزمة المالية بتجفيف كل موارد المال الخارجي، وملاحقة مال الاغتراب، ووقف المال الخليجي بما فيه مال السياحة، وفرض الحظر على المتاجرة عبر سورية من بوابة قانون قيصر، بما في ذلك فرص استجرار الطاقة منها أو عبرها، وإغلاق أبواب الاستدانة التي كانت مفتوحة بلا ضوابط على رغم الفساد والهدر خلال أكثر من عقدين، جاء الحضور الأميركي أشد وضوحاً برعاية منظمات المجتمع المدني بصفتها الاستثمار القادر على حمل شعار نزع سلاح المقاومة الذي رفضت القوى السياسية الطائفية حمل لوائه، بمن في ذلك خصوم حزب الله كتيار المستقبل الذي احتجز رئيسه عقاباً على ذلك، ولحقت العقوبات الأميركية بحلفاء المقاومة من التيار الوطني الحر والمردة وأمل، من دون أن ينتج من ذلك تعديل في مواقف هذه الأطراف، وألزم حلفاء واشنطن برفع الغطاء عن أي حكومة والامتناع عن أي مشاركة فيها لإفساح المجال لمواجهة تدور مباشرة بين المقاومة وحلفائها مع الواجهة الأميركية الجديدة التي منحها الإعلام الممول أميركياً فرصة الظهور كقيادة للانتفاضة الشعبية التي فجرها الانهيار في الشارع قبل سنتين، ومنذ إلزام الرئيس سعد الحريري بالاستقالة بقي هذا الحرم قائماً، سواء قبل المبادرة الفرنسية عبر الحرب المفتوحة على حكومة الرئيس حسان ديابل وإفشالها، أو بعد المبادرة الفرنسية التي أنتجت رؤساء مكلفين ولم تنتج حكومات، بفعل هذا الحرم.
– تزامنت سفينة المقاومة، مع توقيت دولي إقليمي ذهبي التقطه الأمين العام لحزب الله، ففعلت ما هو أهم بكثير من عائداتها في تخفيف معاناة اللبنانيين، لأنها أظهرت أن السلاح المستهدف والمطلوب شيطنته وتقديمه سبباً لمعاناة اللبنانيين، ينزل إلى الميدان حامياً لجلب الماء للعطاشى الذي بخل عليهم الجميع بنقطة ماء، فيما بدا كل تفكير بالمواجهة انتحاراً سياسياً أميركياً على خلفية كل ما تم تسويقه من مبررات للانسحاب من أفغانستان، وانتحاراً عسكرياً إسرائيلياً، في ضوء ما ظهر من معادلات سيف القدس، فلم يتأخر الأميركيون عن الاستدارة سريعاً، سواء ببدء مسار معاكس لمسار العقوبات الذي أكمل الحصار من البوابة السورية، بالإعلان عن الاستعداد لتخفيف قبضة الحصار، وتقديم بدائل لما بدا أنه مسار متصاعد للمقاومة في مواجهة تحديات الانهيار بحماية السلاح، ليظهر أن قطع المسار الذي افتتحته السفن، يتوقف على إطلاق مسار معاكس عنوانه وقف الحرب الأميركية على لبنان، من بوابة الإفراج عن حكومة أقرب لحكومة وحدة وطنية، فالحكومة الجديدة هي حكومة سياسية تمثل أغلب الأطياف السياسية للكتل النيابية الكبرى، باستثناء الذين رفعوا سقوفهم بوهم ثبات واشنطن على سياساتها، وبات التراجع صعباً عليهم، وأن تكون الحكومة نقطة بداية في مسار وقف الحرب الأميركية يمنحها فرصة رفع السقف بطلباتها التي توقف الانهيار، وعدم الوقوع تحت ابتزاز القبول بالقليل، فحل قضية النازحين السوريين وتمويل عودتهم، وتأمين تشغيل أنبوب النفط العراقي إلى مصفاة طرابلس وتشغيلها، والحسم السريع لترسيم الحدود وفق خط المصالح اللبنانية لتعجيل بدء التنقيب والاستخراج للنفط والغاز، هي مطالب قابلة للتحقق إذا امتلكت الحكومة الإرادة السياسية اللازمة.