ناصر قنديل-البناء
– يتوهّم كثير من المسؤولين في العالم والمنطقة أن الملفات التي يقومون بنقاشها، والسياسات التي يتولون رسمها هي ما يحدد إيقاع الأحداث المقبلة، فمنهم من يعتبر العودة إلى التفاوض حول الملف النووي الإيراني الإشارة الأهم لرسم طريق الاستقرار، ومنهم يعتبر أن تفاهماً روسياً أميركياً حول سورية قد يكون التطور الذي يحكم ما عداه، ومنهم من يعطي الأولوية للحوار الجاري بين السعودية وإيران بصفته المدخل الأبرز لتغيير وجهة العلاقات السياسية وعبرها إيقاع الأحداث في المنطقة، ومنهم من ينظر لما سيلي قمة بغداد على مسار العلاقات العربية والإقليمية مع سورية باعتبارها التحول المعاكس للمسار الذي بدأ قبل عشر سنوات وتسبّب بالاضطرابات التي شهدتها المنطقة، فيغلق المسار ويعكس الاتجاه نحو استعادة التوازن والاستقرار.
– كلّ ذلك مهمّ بالتأكيد لكنه يتجاهل حقيقة وجود مسار انفجاري قادم له عنوان واحد هو فلسطين، ولا يوجد ما يستطيع وقفه، وفي حال حدوثه فلا شيء سيبقى على حاله في المنطقة، والانفجار في فلسطين لا يبدو مساراً للمستقبل البعيد ولا المتوسط بل للمستقبل القريب والقريب جداً، فحال الاحتقان ترتفع كل يوم، وما يجري في انتفاضة الأسرى والتفاعل الشعبي معها قد يكون شرارة الانتفاضة المقبلة، ولا يقابلها على مستوى الإجراءات والسياسات في كيان الاحتلال إلا ما يزيد فرص الاشتعال، حيث قيادة الكيان تنطلق في سلوكها ومواقفها من انسداد سياسي وعجز عسكري يضعانها في خانة السعي لاسترضاء المستوطنين ومجموعات التطرف التي تحوّلت منذ سنوات إلى قلب صناعة السياسة وتوازنات الانتخابات في الكيان، مع ضمور وتراجع كل الجماعات الأخرى، بينما على المقابل الفلسطيني فلا ثقة بكلّ حديث عن التفاوض، ولا قبول لكل مفاعيل التنسيق الأمني، وغضب وسخط على سلوك قيادات السلطة متصاعد منذ اغتيال الناشط نزار بنات، ويقين بأنّ المواجهة هي الوصفة الوحيدة لمنع العدوان وتخفيف ثقل قبضة الاحتلال، منذ نتائج معركة سيف القدس وما ظهرته من موازين للردع، واعتقاد بأن اللحظة الدولية المتميزة بالتراجع الأميركي فرصة لا يجب تفويتها، خصوصاً بعد الانسحاب من أفغانستان، والمناخ الإقليمي يسجل صعوداً مؤكداً لصالح محور المقاومة، خصوصاً بعد التأكيدات التي قدّمتها تجربة سفن المقاومة لفك الحصار والتراجع الأميركي- «الإسرائيلي» أمامها.
– لحظة الانفجار الآتية حكماً ستتكفل بصناعة اصطفافات تغير وجهة كلّ ما يمكن فعله لصناعة الاستقرار في الملفات التي يعتقد المسؤولون الحكوميون أنها بوابات السيطرة على توترات المنطقة، فلا العودة إلى الاتفاق النووي بين أميركا وإيران، ولا عودة سورية إلى الجامعة العربية، ولا علاقات جيدة بين السعودية وإيران، أو بين واشنطن وموسكو، ستحول دون انقسام المنطقة والعالم حول فلسطين، فعلى الأقلّ لن تستطيع واشنطن ترك تل أبيب تتلقى الصفعات المؤلمة وحيدة، وليس وارداً بالنسبة لطهران ودمشق مجرد التفكير بالمساومة على اللحظة التاريخية الموعودة لنهوض فلسطيني قادم، والإيقاع الذي سيفرضه الحدث الفلسطيني هو الذي يفسّر التباطؤ في الخطوات المطلوبة في المسارات التقليدية نحو الاستقرار، ذلك أن واشنطن وحلفاءها يتساءلون عما إذا كان كلّ انفتاح وتقدم في العلاقات مع محور المقاومة سيتحوّل إلى جوائز مجانية إذا انفجر المشهد الفلسطيني، وليس خافياً حجم السعي لمحاولات مقايضة أيّ تقدم في مسارات الانفتاح السياسي بالحصول على ضمانات تتصل بأمن كيان الاحتلال، بينما لا يمكن تفسير ثبات وتشدّد حكومات وقوى محور المقاومة إلا من باب الحرص على التمسك بإيصال هذه الرسائل للداخل الفلسطيني بأن فلسطين ستبقى البوصلة التي تحدد الخيارات، والتي لا تقبل المساومة.
– قد تتحرّك بعض المسارات السياسية ولكن الأرجح أن بلوغها نهايات حاسمة قد لا يكون متاحاً من بوابة مفاجأة فلسطينية كبرى مقبلة، وربما تكون المنطقة وتوازناتها بحاجة لجولة مواجهة تعيد ترسيم موازين القوى كمدخل للتفاوض المقبل بعدها وليس قبلها.