بحسب قانون النقد والتسليف، إحدى مهامّ حاكم مصرف لبنان هي أن يقدّم استشارات مالية واقتصادية للحكومة. من هذا المنطلق، وقبيل تأليف الحكومة، أعدّ رياض سلامة البرنامج المالي للإصلاح والنهوض كما يراه مناسباً وأبلغه إلى وزير ماليّته يوسف خليل. في ما يلي خطّة حاكم البنك المركزي لتوزيع الخسائر و«تحسين» رواتب القطاع العام و«إنجاز» الحفاظ على سعر الدولار… عند سقف 35 ألف ليرة!
في حزيران 2020، أحبط مصرف لبنان وجمعية المصارف بالتعاون مع لجنة تقصي الحقائق النيابية خطة حكومة حسان دياب للتعافي المالي. لم يكن الأمر مجرّد صراع سياسي انتهى بتغلّب طرف على آخر، بل كان الأمر أشبه بجريمة مالية تهدف إلى التخلص من أي مشروع لتوزيع الخسائر بطريقة عادلة واستبداله ببرنامج يقوم على بند وحيد هو تحميل الخسائر كلها إلى المودعين والمواطنين على حدّ سواء. مذذاك، تستتبع أكبر عملية نهب للأموال بالتوازي مع تذويب خسائر مصرف لبنان والمصارف للهروب من أي عملية مساءلة أو تحمل للمسؤولية. كان أمام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة خياران:
1- الانخراط في خطة علمية لإعادة إنهاض القطاع المصرفي يبدأ بإعادة هيكلة مصرف لبنان والمصارف ثم استرداد الأموال المهربة والمنهوبة وأموال المودعين للوصول إلى حلّ عادل يقضي بتحميل البنك المركزي والمصارف ومجالسها والمساهمين فيها كما الـ1 في المئة من أصحاب الثروات جزءاً يسيراً من وزر هذه الأزمة.
2- تطوير مخطط الاحتيال حتى اختلاس آخر دولار في أصغر حساب مصرفي. ولأن حاكم مصرف لبنان هو نفسه الذي تسبب وغذّى انهيار الليرة اللبنانية وتلاعب بسعر الصرف وواكب انهيار القطاع المصرفي وميزان المدفوعات، ويعاني «مصرفه» من فجوة فادحة تلامس الخمسين مليار دولار، إضافة إلى خسائر متراكمة في ميزانية «المركزي».
كان البديهي، بالنسبة إليه، أن يستعجل ويوظف كل أدواته في الخيار الثاني، مستفيداً من النظام السياسي الذي يحميه. لذلك، جرى إسقاط خطة الحكومة لتستمر خطة سلامة ورفاقه. بعد تكليف نجيب ميقاتي لتشكيل الحكومة، اكتمل برنامج الحاكم مع سابق الإصرار والتصميم والاتفاق على التمسك بيوسف خليل، مدير العمليات (الهندسات) المالية في مصرف لبنان، وزيراً للمالية في أي حكومة بمعزل عن هوية رئيسها. فأخيراً، أبلغ سلامة مشروعه لخليل كما لبعض المسؤولين، بانتظار أن يوضع على نار حامية مع تشكيل الحكومة.
«لا صندوق النقد، ولا برنامج إيمانويل ماكرون، ولا تدقيق جنائي»، تلك اللاءات هي النقاط الرئيسية في خطة سلامة «الإصلاحية»، مع استثناء بسيط يقضي بـ«استخدام» صندوق النقد للمساعدة على مفاوضة الدائنين أو للحصول على «ميني برنامج» يفرض فيه رؤيته المالية والاقتصادية. وبحسب مسؤولين رسميين، أضاف الحاكم نقطة أخرى تُعنى بالقطاع العام، وبكيفية استيعاب الموظفين الرسميين نتيجة تراجع القدرة الشرائية لرواتبهم التي بات بعضها يساوي أقلّ من 100 دولار. اقترح سلامة سلوك الطريق نفسها التي سلكها مصرف لبنان والمصارف، أي تحويل رواتب القطاع العام إلى الدولار ثم السماح لهم بتقاضيها على سعر صرف يوازي 3900 ليرة لبنانية، ما يعني عملياً مضاعفتها بنسبة 2.6 مرات. ووفقاً للحاكم لن يؤدي هذا الإجراء إلى زيادة النقد بالتداول، إذ يقترح زيادة الإيرادات الضريبية والدولار الجمركي (سبق لوزير المال غازي وزني أن عقد اجتماعاً مع خبراء اقتصاديين للنقاش حول المسألة) لتعويض هذا الفائض. بالإضافة إلى السيولة التي تملكها وزارة المال والتي تكفي حكماً لتصحيح أجور القطاع العام من دون إجبار مصرف لبنان على طبع المزيد من النقد (باستثناء الليرات التي يطبعها لتسديد جزء من الودائع بالعملة اللبنانية)، ومن دون التسبب برفع سعر صرف الدولار بنسبة 100 في المئة بل حصره بنسبة لا تتخطى 30 في المئة. لكن رفع الأجور من مليون و500 ألف ليرة على سبيل المثال إلى 3 ملايين و900 ألف ليرة، سيسعد الموظفين، ولكنه لن يأتي مجاناً وكـ«مساعدة» من سلامة أو وزير ماليته، بل سيذوب سريعاً ضمن خطة الإفقار المعتمدة من قبله، نتيجة زيادة الإيرادات الضريبية وتضخّم أسعار السلع حتماً بالتزامن مع زيادة سعر صرف الدولار والمزيد من الانهيار في الليرة.
في هذه الأثناء، يقول سلامة لمسؤولين رسميّين إن مسعاه لسدّ فجوة مصرف لبنان يتوقّع أن يدوم ما بين 7 سنوات و10 سنوات. تقوم خطة المصرف المركزي على تسديد الودائع وفقاً لسعر الـ 3900 للدولار الواحد (أو السعر الجديد الذي قد يعلنه قريباً)، بما يسمح ــــ مع استخدام الودائع لسدّ القروض ــــ بتذويب نحو 4 مليارات ونصف مليار دولار سنوياً. ذلك يعني طبع المزيد من الليرات. ولا يجد الحاكم أيّ مشكلة في زيادة النقد بالتداول، نهاية العام المقبل، إلى 80 ألف مليار ليرة، معتبراً أن وصول سعر صرف الدولار عام 2022، الى ما يقارب «35 ألف ليرة فقط» هو «إنجاز». من ناحية أخرى، يؤكد سلامة أن أي إصلاح أو تسوية في القطاع المالي مستحيل، رغم اعترافه بأنه لا يمكن إخراج لبنان من أزمته سوى عبر معالجة الخسائر المتراكمة في ميزانية مصرف لبنان والنظام المصرفي ككل.
في السياق نفسه، يرى الحاكم أنه بعد «تذويب» الجزء الأكبر من الودائع، والتخلّص من ديون المصارف على «المركزي»، ينبغي التعامل مع ما يبقى من تلك «الديون» كدين أبدي عبر إصدار سندات دائمة (perpetual bonds) يدفع بموجبها فوائد للمصارف إلى ما لا نهاية. ويقدّم سلامة هذه «الفكرة» كبديل من استحواذ المصارف على أملاك الدولة، حتى لا يثير مشاكل إضافية مع الرأي العام. من هذا المنطلق، يتعاون والمصارف على قوننة سرقة أخرى تتمثل في الاستمرار بتحويل فوائد الدين بالليرة الى المصارف التي لا تحوّلها بدورها إلى فوائد للمودعين، بل توظّفها في المؤونات (احتياطات الخسائر المتوقعة) منذ ما يقارب السنتين.
رغم كل ما سبق، حاكم مصرف لبنان مرتاح. الخسائر المتراكمة في ميزانيته والتي يوردها تحت مسمى «أصول أخرى»، كانت تساوي نحو 60 ألف مليار ليرة مطلع العام الجاري، أي ما يوازي 40 مليار دولار على سعر الصرف الرسمي (1500 ليرة). أما في نهاية تموز الفائت، فباتت نحو 82 ألف مليار ليرة، أي أقل من 5 مليارات دولار وفق سعر صرف السوق السوداء. وهذا «إنجاز» جديد يُضاف إلى إنجازات الحاكم الذي تمكّن من خفض قيمة الخسائر التي راكمها على مدى 28 عاماً!
في بداية انهيار سعر الصرف، توقّع سلامة أن «الناس بكرا بيتعوّدوا». وفي الآونة الأخيرة، جدّد توقّعه. لكنه هذه المرة، قرّر أن «الناس بيتعوّدوا عالفقر». أتى ذلك في سياق حديثه عن تمكّنه، بعد الانتهاء من تطبيق «خطته»، من إعادة اللبنانيين إلى ما كانت عليهم حالهم عام 1990، مباشرة بعد انتهاء الحرب الأهلية. عندها سيكون الناتج القومي قد وصل الى ثلث مستواه السابق للأزمة، ويترافق مع هجرة ثلث اللبنانيين وتدنّي مستوى التعليم والنقل والخدمات الصحية، فيما عملية «الإصلاح» سيتحمّل وزرها المودعون الصغار والمتوسطون، وعموم سكان لبنان، ولن ينجو منها سوى أصحاب الثروات. لا ضير من ذلك، فسلامة واثق بأن الناس «ستتعود». وستحتاج البلاد، وفق تقديراته، إلى ربع قرن على الأقل، للعودة إلى ما كانت عليه قبيل تشرين الأول 2019!