} علي بدر الدين-البناء
ودّع اللبنانيون من مختلف الطوائف والمذاهب والمناطق، جثمان إمام الوطن والمحبة والسلام، سماحة الإمام الشيخ عبد الأمير قبلان إلى مثواه الأخير، في مأتم مهيب ووقور وخشوع وصلاة ودموع، يليق به، وبمكانته الدينية والإيمانية والإنسانية والأخلاقية، وبمواقفه الوطنية الأصيلة، التي تجاوزت حدود الطائفية والمذهبية والمناطقية والعصبية والفئوية، في زمن طغى عليه الانكفاء والانطواء والعودة إلى كهوف الانعزال والأنانية، واللعب على أوتار غرائزية تستفز من خلالها، عصبيات البيئات الحاضنة وتغرقها في رمال طائفية مذهبية متحرّكة ليس من أجلها، بل في سبيل خدمة مصالح وغايات خاصة.
ان الشيخ الجليل عبد الأمير قبلان، كان استثناء متميّزاً، عالماً ومدركاً لحجم الأخطار القائمة والداهمة والمحدقة بالوطن، حاول وحيداً أو أقله مع ثلة من رجال الدين أمثاله من طوائف أخرى، الوقوف في مواجهة هذه الأخطار، ومنع تمدّد تياراتها وتلاطم أمواجها بمجاذيف الكلمة الطيبة والحوار والانفتاح والتسامح والسلام، وكان رحمه الله من كبار رموزها والداعين اليها والعاملين في سبيلها، والزارعين بذورها على مساحة الوطن الذي يتسع لجميع أبنائه، وهو وطن لا مثيل له ولا بديل عنه.
الحق يُقال، إنّ الإمام قبلان، خاض «معارك» قاسية وصعبة للحؤول دون الارتطام الكبير والخطير الذي يهدّد الوطن ويدمّره ويشرّد شعبه ويفقره ويجوّعه، رغم قناعاته بأنّ سلوك طريق الحوار بين مكونات الشعب على اختلافها وتنوّعها الطائفي والمذهبي هو الأقصر والأسلم والأنفع، مكرّراً في أكثر من مناسبة قول الإمام المغيّب السيد موسى الصدر «الطوائف نعمة والطائفية نقمة»، لأنه لا يجامل ولا يساير ولا يهادن أحداً إذا ما استشعر انّ الوطن في خطر. وظلّ حتى الرمق الأخير من حياته يعمل بجدّ وتفان قولاً وفعلاً من أجل تعزيز الوحدة الوطنية، وترسيخ العيش المشترك، ليس برفع منسوب الخطابات وبيع الكلام في سوق عكاظ المصالح الخاصة وتحصيل المكاسب والتموضع في المواقع السلطوية لمزيد من التسلط والنفوذ والتحاصص وجمع المال من «شحّ أو حرام».
مولانا، إمام الوطن والشعب والمحرومين والفقراء وأبناء السبيل، حامل راية السلام والمحبة والحوار، بشهادة كلّ من عرفك، وسمع عنك، وعن فضائلك وسمو نهجك، وتواضعك الذي أبهر الجميع، أقول لك بالفم الملآن وعلى رؤوس الأشهاد، وليسمع القاصي والداني، انك يا مولانا أدّيت قسطك للعلى وقمت بواجبك الشرعي والوطني كاملاً، في سبيل الوطن والشعب، كلّ الشعب من دون تمييز بين طائفتك والشركاء في الوطن، وزياراتك المرحب بها دائماً وأبداً الى الكنائس والمساجد ودور العبادة ورجال الدين من مختلف الطوائف والمذاهب، هي فعل إيمان وتأكيد منك، ان لا قيامة للبنان ولا حياة له، إلا بوحدة أبنائه وتعاونهم وتكاتفهم.
يوم وداعك يا مولانا، يوم حزن وألم وأسى لكلّ اللبنانيين، لأنّ فقدك خسارة كبيرة لهم وللوطن، وما يعزيهم ويخفف من حزنهم، أنك وحّدتهم في يوم رحيلك الموجع، كما كنت توحّدهم أو تدعوهم إلى الوحدة الوطنية في حياتك.
أنّ الحزن كبير على رحيلك، وأنا الذي واكبتك في صولاتك وجولاتك على مدن الجنوب وقراه ودساكره على مدى 25 سنة، وكنت أتشرّف بزيارتك كلّ أربعاء في دار الإفتاء الجعفري، لأتزوّد بتوجيهاتك، وأنهل من نهجك الوطني، وأتعلّم من مدرستك الإيمانية العلوية الحسينية الصدرية. كنت لي بمثابة الأب والأخ والصديق، وقد غمرتني بمحبتك وكرمك وتواضعك، الذي لم يسبقك أحد عليه. ولن أنسى زياراتك المفاجئة الى بيتي المتواضع، وإصرارك على إلقاء التحية والسلام على والدتي رحمها الله، التي كانت تدعو لك بطول العمر، وحمّلتك وصية وأمانة، بان تلقي كلمة في ذكرى أسبوع وفاتها، وكنت الصادق الأمين الوفي ونفذت الوصية.
كنت يا مولانا لا تترك مناسبة أو فرصة إلا وتذهب فيها الى هذا الجنوب الصامد المقاوم الشامخ بأبنائه، لتلتقي بالفقراء والمحتاجين منهم، وتتفقد أحوالهم، وتستمع بحب وشغف ووجع إلى احتياجاتهم ومطالبهم، وتحلّ مشاكلهم قدر المتاح والمستطاع والإمكانيات.
فقدك خسارة كبيرة يا مولانا الإمام الشيخ عبد الأمير قبلان، ورحيلك مؤلم، وقد أدمى قلوبنا وأدمع عيوننا.
رحمك الله برحمته الواسعة وأسكنك فسيح جناته.
وعد وعهد ان نبقى على نهجكم سائرين، وأن نسلك طريق الحق والعدل والحرية التي سلكتها. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.