بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
صُدمَ الكيانُ الصهيوني وفُجِعَ، وأصابه الذهولُ وذُعرَ، واضطربت حكومتُه وارتبك جيشُه، واهتز أمنه وتهدد استقراره، وخاف مستوطنوه واختبأوا، وحاول زائروه الهرب منه وفشلوا، إذ ما كانوا جميعاً يتوقعون أن تندلع حربٌ جديدةٌ تحمل اسم القدس، وتدور رحاها من أجل القدس، ويجرد سيف العرب من غمده نصرةً لها وحمايةً لأهلها ومقدساتها، ويقصفوها بصواريخهم، ويهددوها بمقاومتهم، وهي التي خططوا لتهويدها وشطب معالمها العربية والإسلامية، وتغيير هويتها وتبديل أسمائها، وإعادة رسم معالمها، لتكون يهودية التاريخ والطابع، وإسرائيلية الوجه والشكل، وعبرية اللسان والكلمة.
فقد راعهم كثيراً تطور الأحداث، وانتقال شرارتها إلى القلب والأطراف البعيدة، وإلى المدن العربية النقية والمختلطة، واشتعال مدينة القدس بشطريها الشرقي والغربي، التي يدعي بوقاحةٍ وصفاقةٍ أنها عاصمته الأبدية الموحدة، وأربكهم تعطل الحياة العامة فيها، واضطراب العمل في مؤسساتها، وتوقف مسيرة الأعلام السنوية، وتجميد حملات اقتحام باحات المسجد الأقصى، والامتناع عن التجمع والصلاة في ساحة البراق، في مشهدٍ لم يعتادوا عليه ولم يتوقعوا حدوثه يوماً، فقد ظنوا أن الأمر في القدس قد استقر لهم، وأن المدينة قد أصبحت مدينتهم، ولم يعد أحدٌ يقوَ على مزاحمتهم فيها أو منافستهم عليها، أو تهديد وجودهم فيها.
لكن سيف القدس كان بتاراً، وَحَدَه ُكان قاطعاً، ونصله كان براقاً، وقعقعته كانت صاخبة، واليد الذي قبضت عليه كانت واثقة، والساعد الذي حمله كان قوياً، والمعركة التي كان فيها باسم القدس مسلولاً، أيقظت الشعوب، وحركت الأمم، ونبهت الحكومات والدول، وأخافت العدو والحليف، وأربكت المتخاذل والمتآمر، وأحرجت المتفرج والساكت، والجبان والخائر، وشجعت الضعيف والخائف، والمتردد المتهيب، وأثبتت أن المقاومة قادرة، وأنها قوية وفاعلة، وأن ساعدها متينٌ، وبأسها شديدٌ، وعزمها حديدٌ، وإرادتها لا تفلُ، وأنها في ساعة العسرة تحمل، وفي المواجهة تصبر، وفي الحرب الضروس تتميزُ وتنتصرُ.
أدرك العدو وحلفاؤه، وعلم أنصارهُ وأحبابهُ، أن المقاومة قد تجاوزت الحدود، ومست المحرمات، ودخلت في المحظور، وأتت منكراً دولياً وحراماً عسكرياً، وحركت الجمر الذي ظنوه لطول الزمن وخور العرب قد استحال رماداً، وأنه لن يعود يوماً فيتقد، أو تدب فيه النار وتلتهب، فالحرب من أجل القدس ممنوعة، والقتال في سبيل تحريرها جريمة، وتحريض الشعوب والأمة نصرةً لها وتضامناً معها إنذار خطرٍ ورسالة تهديدٍ، ولكن المقاومة الفلسطينية لم تلتزم الحدود، ولم تحترم ضوابط الكيان وحلفائه، فقصفت القدس بصواريخها، وفضت بجديتها تجمعات الإسرائيليين وفرقتهم، وألقت في روعهم يقيناً أن هذه المدينة ليست خالصةً لهم، وأن زمن استعادتها قد أزف، ووقت استراجعها إلى أصحابها التاريخيين قد اقترب.
شعر الأمريكيون ومعهم دولٌ أوروبية غربية، أن معركة القدس ليست كأي معركة، وأن النفير بسببها سيكون شاملاً، وتلبية ندائها سيكون مخيفاً، والانضواء تحت لواء سيف تحريرها سيكون كبيراً، وزحف الأمتين العربية والإسلامية نحوها سيكون سريعاً، والاستبسال في الدفاع عنها والاستشهاد في سبيل تحريرها سيكون مشهوداً، وعقد الألوية وتنظيم الكتائب باسمها سيكون في تاريخها غير مسبوقٍ.
فالرايات من أجلها ترفع، والبيارق لتحريرها تنصب، وصيحات التكبير أملاً بتحريرها تصدح، فهي أقدر على جمع كلمة الأمة وتوحيد صفوفها، وأجدر على شحذ هممها وتأجيج عاطفتها، وهي أوسع إطاراً وأكبر شملاً، وتحت لوائها يلتقي الجميع، عرباً وعجماً، وسنةً وشيعةً، ومسلمين ومسيحيين، وعلى بواباتها يتصالح المؤمنون، وفوق أسوارها القديمة وفوق قبابها وأعلى مآذنها ترتفع أعلامنا، وترفرف راياتنا، وعلى منابر الأقصى ومساجدها، وفي كنسية القيامة ومدارجها، يذيع خطباؤها خطابات النصر وبيانات التحرير.
لا يخفي على أمتنا العربية والإسلامية وقادة مقاومتها كلها، ما أدركه العدو وشعرت به الولايات المتحدة الأمريكية ورئيسها، فقد سبقوا الجميع بتحذير الكيان الصهيوني من مغبة الاعتداء على مدينة القدس، أو المساس بمكانة المسجد الأقصى، وأكدوا أن أي مغامرة إسرائيلية تجاه القدس، تعني اندلاع حربٍ إقليمية، إن لم تكن حرباً عالمية، تشترك فيها الأمة كلها، من أقصى شرق الأرض إلى غربها، وأعلنوا في خطاباتٍ شعبية وبياناتٍ سياسية، أن معركة القدس آتيةٌ لا محالة، وأن العدو بحماقاته يستعجل بها وبمهد لها، وكانت المقاومة وستبقى صادقة في وعدها، وجاهزة في ردها، وحاضرةً في حلفها.
بات معسكر الأعداء ومحوره الذي يروم بأمتنا شراً، ويسعى إلى إبقائها سادرةً نائمة، والحفاظ عليها ضعيفة مستكينة، ضالةً منحرفةً، مستهترةً مستخفةً، بعيدةً عن أهدافها ومغيبة عن غياياتها، بعد أن أدرك أن القدس هي كلمة السر الجامعة، وهي شرارة المعركة الحاسمة وعنوان الحرب الأخيرة، يتطلع إلى إبعادها عن المعركة، وإخراجها من المعادلة، وإقصائها عن أي مواجهة، وعدم جعلها عنواناً للمواجهة أو الصراع، فالكيان الصهيوني ومن تحالف معه وسانده، لن يستطيع مواجهة الأمة التي اعتادت على النصر في معارك القدس، وتعاهدت على تحريرها من الغازين، وتطهيرها من المفسدين، والتاريخ على ذلك خير شاهدٍ، فما انبرت الأمة لقتال محتلي القدس إلا هزمتهم وطردتهم، وأجلتهم عنها ومن بلادنا وأخرجتهم.
أمام إصرار العدو والولايات المتحدة الأمريكية على منع اندلاع معركة القدس، وتجنب إثارة أسبابها، وعدم القيام بما من شأنه أن يقود إليها أو يعجل بها، ينبغي علينا عدم الانجرار إلى أي معركةٍ جانبيةٍ، أو التورط في احترابٍ وانقسامٍ داخلي، أو الاستجابة إلى كل ما من شأنه أن يبعدنا عن معركتنا الأساسية ومقاومتنا المشروعة ضد الكيان الصهيوني، في الوقت الذي يجب فيه أن نتهيأ ونستعد نفسياً ومعنوياً، وأن نعد العدة ونتجهز تسليحاً وتدريباً، وأن نطور قدراتنا القتالية وأدواتنا الفنية، دقةً وإصابةً، وقصفاً وتدميراً، في الوقت الذي نسوي فيه صفوفنا، ونوحد جبهاتنا، ونصفي نفوسنا، ونتفق فيما بيننا، فما حرر الأولون القدس إلا بجبهةٍ واحدةٍ، وقيادةٍ صادقةٍ، ومنهجٍ حكيمٍ ورؤيةٍ بصيرةٍ.
المصدر: د. مصطفى يوسف اللداوي