معجزة «جلبوع»: الأرض عيد
الأخبار
«طار العيد»؛ هكذا علّق أحد الصحافيين الإسرائيليين على «عملية جلبوع»، قاصداً بذلك تزامنها مع استعدادات الكيان العبري للاحتفال بـ«الأعياد اليهودية». العيد الذي طار من بين الغاصبين، حلّ، سريعاً، في أوساط أهالي الأرض المحتلّة، الذين مثّلت عملية تحرّر ستّة أسرى من سجن جلبوع، بأظافرهم وأسنانهم، ما يشبه المعجزة بالنسبة إليهم. معجزةٌ لا تفتأ الأرض الوفيّة لأصحابها تُجدّدها، مُخرجةً من باطنها، في كلّ حين، عيداً للفلسطينيين ولكلّ من يناصرهم حول العالم
موقع «والا» العبري رسم سيناريو لعملية تحرّر الأسرى من «جلبوع»، مشيراً إلى أن التخطيط لها استمرّ عدّة أشهر، وفي «لحظة الصفر» خرج الأسرى من السجن عبر فتحة نفق أسفل مغسلة داخل غرفتهم، تقابلها فتحة نفق قرب جدار السجن من الخارج. وبحسب الموقع، فإن سائق مركبة «تاكسي» إسرائيلية أبلغ شرطة العدو – عند الساعة 1:50 بعد منتصف الليل – بمشاهدته شخصيات مشكوكاً فيها وهي تحمل أدوات في أيديها قرب السجن، وبعد 25 دقيقة أبلغت شرطة العدو في سجن «جلبوع» قيادتها عن البلاغ الذي تلقّته، ثمّ أعلنت «إدارة مصلحة السجون» الإسرائيلية فقدان ثلاثة أسرى، وبعد نصف ساعة أعلنت اختفاء آثار ثلاثة أسرى آخرين. من جهتها، تحدّثت صحيفة «هآرتس» العبرية عن أن التحقيقات الأمنية الأوّلية تشير إلى أن الأسرى الستّة تلقّوا مساعدة من الخارج، وأن النفق الذي خرجوا منه يمتدّ لعشرات الأمتار.
تحطيم «الخَزنة»
يقع سجن «جلبوع» قرب مدينة بيسان شمال فلسطين المحتلة، ويُطلَق عليه بالعبرية «كسيفت»، أي خَزنة النقود الصغيرة المزوَّدة بشيفرة رقمية لفتحها، للدلالة على شدّة تحصين السجن وتعقيده. افتتح العدو «جلبوع» خلال انتفاضة الأقصى عام 2004، وخَصّصه للأسرى المقاومين المصنَّفين «الأكثر خطراً على الأمن الإسرائيلي»، ومعظم القابعين داخله قادة في المقاومة الفلسطينية ومنفّذو عمليات فدائية ومحكومون بأحكام عالية. اعتمدت «إدارة مصلحة السجون» الإسرائيلية، خصّيصاً، على شركة إيرلندية لتدشين السجن وبنائه ليكون «حصناً منيعاً». وتقول مصادر مطّلعة، لـ«الأخبار»، إن «جلبوع» مختلف عن السجون الأخرى، إذ إن كمية الإسمنت المسلّح في أرضيّته تبلغ ضعفَي الكمية في أرضيّات بقية السجون، وتحتها طبقة فولاذية إضافية من المواد التي تُصنَّع منها دبابة «الميركافا» المحصّنة. «جلبوع» مزوَّد، أيضاً، بأبراج مراقبة تعمل على مدار الساعة، وبكلاب حراسة ومجسّات وأجهزة استشعار ومنظومات مراقبة حديثة. ويتفحّص العدو يومياً أرضية الزنازين فيه، وغرف الأسرى وكلّ محتوياتها لـ«ضمان عدم وجود أيّ خروقات أمنية»، إضافة إلى العدّ الصباحي والمسائي، أي إحصاء أسرى السجن والتأكد من وجودهم جميعاً.
الخروج من سجنٍ إسرائيليٍ عبر نفق يُعدّ معجزةً حالياً لأسباب عدّة، أوّلها أن حفر أرضية الغرفة أو عدّة غرف في قسم ما صعبٌ للغاية وقد يُكشَف في أيّ لحظة، نظراً إلى سماكة الأرضية وتحصينها، إضافة إلى وجود أجهزة استشعار. كما أن الحفر يستغرق وقتاً طويلاً ويتمّ بأدوات بدائية، فبعض الأسرى استعملوا سابقاً ملعقة ومسماراً أو قطعاً حديدية من معلّبات، أو قطعة حديد مُهرّبة. ويمرّ الخروج عبر نفق بمراحل متعدّدة، كلٌّ منها معقّدة وتحوي تفاصيل كثيرة، من مثل: أين يوضع التراب المستخرَج من الحفر؟ وكيف يُضمن عدم اكتشاف السجّانين للتراب قبيل «الهروب»؟ على أن تراب الأرضية المحفور ليس الجزء الأصعب في عملية انتزاع الحرية عبر نفق، بل هناك تحدّيات إضافية تواجه الأسرى، ككتمان صوت الحفر نهائياً، واختيار الموعد المناسب له، ومعرفة الاتجاهات في السجن والمخارج، وهذه الأمور تحتاج إلى عقلية فذّة وحسّ أمني عالٍ. كما أن الأسرى يعيشون حالة إرباك ويوميات غير رتيبة، إذ يشنّ سجّانو العدو يومياً حملات تفتيش وتفقّد لكلّ محتويات الغرف وأرضياتها، بما يشمل: تفقّد الجدران، المراحيض، الأسرّة الحديدية التي ينام عليها الأسرى، وهو ما يهدف إلى قطع التواصل ما بين الأسرى والخارج، سواءً عبر الهواتف المحمولة التي قد يخفيها بعضهم، أو عبر القصاصات الورقية ما بين الفصائل الفلسطينية داخل السجون وخارجها، أو من داخل سجن إلى آخر، فضلاً عن منْع محاولات الهروب. ثلاثةٌ من المحرَّرين عبر «نفق جلبوع» يصنّفهم الاحتلال بالخطرين، أو بالعبرية «ساجاف»، وهي اختصار لجملة «خطر هروب كبير»، وهؤلاء يتواجدون في عدّة سجون، وليس داخل «جبلوع» فقط، وهذا التصنيف يوضع في أعلى بطاقة الأسير في السجن، ليتنبّه السجّانون أثناء التعامل معه. ويفرض العدو إجراءات صارمة على هذه الفئة خلال حركتها، سواءً أثناء إرسال الأسرى إلى عيادة السجن أو غرفة الزيارة، أو أثناء النقل إلى سجن آخر. ووفق أسرى محرَّرين، فإن هؤلاء يختار العدو لهم خصّيصاً غرفاً وزنازين غير ملاصقة لأيّ جدار في السجن، بينما يتّسم تعامل السجّانين معهم بخشونة أكبر.
عوامل عدّة أدّت إلى نجاح عملية «نفق الحرية» وتحرّر الأسرى الستّة، منها أن آخر بوادر محاولة للفرار من السجن كانت قبل سبع سنوات عند اكتشاف حفرة صغيرة، وهذه السنوات السبع ربّما تشكّل مدّة طويلة في العُرف الأمني الإسرائيلي، على رغم أن العدو اتّخذ سلسلة إجراءات واسعة احتياطية لضمان استحالة خروج أيّ أسير من «جلبوع». في عام 2014، اكتشف الإسرائيليون حفرة ممتدّة لعدّة أمتار أسفل أرضية مرحاض زنزانة في السجن، ليسارعوا إلى تغيير المراحيض عبر استبدال المرحاض الإفرنجي بالمرحاض العربي الأرضي، إضافة إلى بناء أرضية من الإسمنت والشِّباك الفولاذية. كما غيّر العدو قنوات الصرف الصحي أسفل السجن، وأصبح يفتحها يومياً ويفحصها للتأكّد من عدم وجود أتربة أو حجارة ناتجة من أعمال حفر. أسرى «جلبوع» يعيشون ظروفاً بيئية سيئة، خاصة ارتفاع الرطوبة، لكنّ هذه الظروف تُعدّ مثلى لحفر نفق، إذ توجد أسفل الإسمنت المسلّح والفولاذ، التربة الزراعية سهلة التفكيك والحفر. كما أن وجود أسرى قدامى مثل الأسيرَين العارضة يشكّل إضافة نوعية وسبباً رئيساً للنجاح، بحكم «امتلاكهما تجربة تراكمية في محاولات هروب سابقة»، ونظراً إلى فهمهما الأوضاع في السجن وامتلاكهما معرفةً ومعلوماتٍ حول الأمر. وبحسب مراقبين، فإن وجود زكريا الزبيدي ربّما مثّل أيضاً إضافة من النوع نفسه، بسبب وجود الزبيدي كأسير جديد، ومعرفته بالجغرافيا في الخارج، وامتلاكه شبكة علاقات واسعة، خاصة في جنين ومخيمها (سجن جلبوع قريب إلى جنين نسبياً، وتستغرق الطريق بينهما حوالى ساعة وربع ساعة في السيارة).
ورسمت صحيفة «يديعوت أحرونوت» سيناريوات عدّة للوجهة التي سيذهب إليها الأسرى الستّة، إذ إن لديهم إمكانية للتوجّه نحو جنين لأنها أصبحت أكبر معقل لمقاومة العدو الإسرائيلي خلال الأشهر الأخيرة، إضافة إلى كثافة تواجد المقاومين المسلحين فيها. ورأت الصحيفة أن أمام الأسرى المحرَّرين خيارات ووجهات أخرى، من مثل اختطاف مستوطنين وإبرام صفقة تقضي بنقلهم إلى دولة عربية، أو التوجّه إلى الأردن عبر الاستفادة من «الحدود المخترَقة نسبياً»، ثمّ التوجّه منه نحو لبنان. ولم تستبعد الصحيفة خيار الهرب نحو غزة على رغم كونه صعباً جداً وضعيفاً بسبب الجدار الفاصل على الحدود، «لكن بعض الأسرى نجح سابقاً في الوصول إلى غزة». وهاجم صحافيون ومحلّلون إسرائيليون، بقوة، عملية «نفق جلبوع»، واعتبروها فشلاً ذريعاً، إذ وصف المسؤول السابق في إدارة سجون العدو، رامي عوفاديا، ما جرى بأنه «فشل يشبه خسارة إسرائيل في حرب عام 1973»، فيما اعتبره الصحافي يوني بن مناحيم «خرقاً أمنياً كبيراً ومُخزياً». وتزامناً مع «رأس السنة العبرية»، علّق مراسل موقع «والا» ساخراً: «طار العيد»، فيما قال مصدر أمني إسرائيلي لـ«القناة 12» إن ما جرى «محرج، والأسرى عملوا لفترة طويلة ولم تكن لدينا أدنى معلومة».