ناصر قنديل-البناء
– رغم مرور شهور على تدهور حالته الصحية المتراجعة، كان لرحيل الشيخ عبد الأمير قبلان هذا الوقع الكبير، والشعور بالفقد والغياب، فخلال نصف قرن كان الشيخ قبلان حاضراً حيث لا يتواجد الكثيرون، فهو مع الناس في أبسط تفاصيل حياتها، من دخول المستشفى والمدرسة إلى فواتير الدواء والأقساط وصولاً لانقطاع المياه والكهرباء عن بلدة نائية في الهرمل أو أقصى الجنوب، بذات مقدار حضوره في القضايا الكبرى وفي مقدمتها قضية فلسطين ومقاومتها ومعاناة أهلها خصوصاً في القدس، إلى قضية الدفاع عن سلاح المقاومة، والحرص على تفاصيل ويوميات صيانة العلاقات بين الطوائف وحساسياتها، والنأي عن كل ما يثير العصبيات، وصولاً للعلاقات اللبنانية- السورية وعلاقات لبنان بعمقه العربي والإسلامي، وخصوصية العلاقة بكل من العراق حيث النجف الأشرف والجمهورية الإسلامية في إيران حيث الحضن الدافئ للمقاومة.
– من عرف الشيخ قبلان لا يستطيع تجاهل بديهته الحاضرة، وطرفته النادرة، وأفكاره المفاجئة الجريئة، وصدق السريرة، ما جعله قريباً لقلوب محدثيه، مؤثراً في كل من عرفوه، صداقاته من الرؤساء والقادة إلى مواطنين عاديين يعرفهم بالأسماء ويعرف أحوال عائلاتهم ويزورهم مطمئناً كلما مرت طريقه قرب مساكنهم، من دون أن تربطه بهم صلة قربى أو قضية أو مصلحة، وكان سماحته شجاعاً لحد المغامرة وتقبل المخاطرة عندما يستدعي الموقف ذلك، ومحاوراً حكيماً عندما يمكن تجنب المواجهات بالسعي للتسويات، خصوصاً في الشأن الداخلي، وقد عرفت سماحته مباشرة عن قرب منذ العام 1982، عندما حاولت السلطة التي كان يقودها الرئيس السابق أمين الجميل إزالة الأحياء الشعبية في الرمل العالي في برج البراجنة، عندما وقف الناشطون المناهضون للنظام يحتضنون انتفاضة الأهالي بوجه السلطة، ومن دون تدبير مسبق لم يكن من مكان يستضيف المجتمعين إلا مسجد برج البراجنة الذي يؤم الشيخ قبلان الصلاة فيه، ولا من مرجعية تحتضن إلا الشيخ قبلان نفسه، الذي تقدم الصفوف، وصولاً لفرض وقف الإجراءات التي كانت تستهدف بيوت الفقراء.
– في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وعندما كان الاتحاد السوفياتي ينهار ودول أوروبا الشرقية تعرف الثورات الملونة، طلب سماحته موعداً للقاء الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وهو كان دائماً يتفادى أن يكون في صورة الصف الأول التي كان يؤمن أنها تختص برفيقي دربه الرئيس نبيه بري، والشيخ الراحل محمد مهدي شمس الدين، لكنه يومها كان مصراً على اللقاء، ولما سألته بعدما تيسر هذا اللقاء عن موضوعه وحصيلة ما توصل إليه، قال كنت قلقاً على مستقبل سورية، وأردت أن أطمئن من الرئيس الأسد شخصياً، وقد طمأنني الرئيس الأسد شارحاً أسباب ثقته بثبات سورية، بأنها ليست كسواها من دول أوروبا الشرقية التي خاضت عداوة مع الدين الذي حفظته سورية، وتخلت عن هويتها القومية التي أعلت سورية شأنها، واستهدفت ملكيات الناس بينما في سورية تحترم الملكية.
– في العام 2002 تقدمت باقتراح قانون للزواج المدني الاختياري، وكنت النائب المسلم الوحيد الذي يفعل ذلك، فتلقيت اتصالات من الشيخ قبلان يعاتبني ويبلغني غضب عدد من رجال الدين، ودعوتي لحوارهم، وقدم مكتبه لهذا الغرض، وكان أخاً كريماً وراعياً أبوياً للحوار، فسألت المعترضين كيف يمكن أن نقبل تشريع الكازينو من الدولة بذريعة أن الدولة لا تشرع لنا فقط بل لكل مواطنيها، ونرفض هذا السبب لتقبل أن تتولى الدولة التشريع لمواطنيها الذين يرغبون بالزواج المدني، فنعلي شأن مواطنة الذين يرغبون بلعب القمار على مواطنة الذين يرغبون بالزواج المدني وأغلبهم من أصحاب الزيجات المختلطة التي تخفف من حدة التعصب الطائفي، ويشكلون مواطنين محترمين، وبعد حوار طويل وشاق انحصر الخلاف بين أن نقبل ولا ندعو أو أن نتولى الدعوة، وكان الشيخ قبلان مديراً للحوار بذكاء وثقافة تحفظ للود وللخلاف في الرأي مكانتين متساويتين.
– في العام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان الشيخ قبلان مسكوناً بهاجس الخوف من الفتنة المذهبية وكان حريصاً على أن يتولى المجلس الإسلامي الشيعي رفع الصوت في احتضان الحزن الذي أصاب اللبنانيين والتعبير عنه، فطلب إلي صياغة البيان بالمناسبة، وإجراء الاتصالات لتنظيم زيارة وفد كبيرللتعزية، ورغم أن التلاعب السياسي الذي أراد توظيف الاغتيال في مشروع مبرمج بالعداء لسورية والمقاومة يومها، حال دون وجودي في الوفد، كان سماحته حريصاً على تظهير موقف يعبر عن الوحدة الوطنية والوحدة الإسلامية، ويجد الأعذار للمواقف الملتبسة، منعاً للرد عليها لإدراكه لحساسية اللحظة وخطورتها.
– كثيرة هي المحطات التي تحضر في الذهن وتستحضرها الذاكرة، في لحظة غياب هذه القامة الكبيرة التي على وداعتها وبساطة نمط حياتها، تختصر حقبة من تاريخ لبنان تركت بصمات واضحة فيه، امتداداً لمسيرة بدأها الإمام السيد موسى الصدرو تابعها بعد غيابه الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، يرافقه ويليه الراحل االكبير الإمام قبلان، وفي كل هذه المراحل بصمة مستمرة للرئيس نبيه بري، ومقاومة متعاظمة الحضور بقيادة السيد حسن نصرالله أطال الله بعمريهما.