قبل شهر من اليوم، أطفأ المحتكرون شمعتهم الـ54؛ مناسبة لم تكن لتتحقق لو لم يوفر لهم أصحاب السعادة والمعالي حماية وغطاء طوال تلك السنوات. المرسوم الاشتراعي رقم 34/67 الصادر بتاريخ 5/8/1967 بقرار من حكومة الرئيس الراحل رشيد كرامي وتوقيع رئيس الجمهورية شارل الحلو، مَنَح «الممثل التجاري اللبناني» حماية قانونية للسطو على السوق وفرض حصريته على السلع. مذذاك، كرسّت الدولة اللبنانية نفسها لخدمة المحتكرين (أصحاب الحق الحصري بالمبيعات أو المفوضين الحصريين بالبيع)؛ وفي وقت طورت غالبية الدول ذات الاقتصاد الرأسمالي نظامها وحرّرت أسواقها من ثقل الحصرية، حافظت السلطة اللبنانية على موروث الانتداب الفرنسي ووسعت سوق الوكالات حتى باتت ثلثي الأسواق اللبنانية تتسم بطابع احتكاري. ذلك لم يمنع مشرّعي الوكالات الحصرية من التغني على مرّ السنوات، باقتصاد لبنان الحرّ وأسواقه المفتوحة. علماً أنه بحسب تقرير نشرته «الدولية للمعلومات» في نيسان الماضي، «لا يزيد عدد أصحاب الوكالات الحصرية على 300». لكن الواقع أن هؤلاء، على قلتهم، يتوزعون على مختلف القطاعات وينفذون عليها احتكارات ضمنية عبر منع أي طرف آخر من استيرادها، فيحددّون الأسعار والأرباح كما يشاؤون.
يقول بعض أصحاب الاختصاص أن «الطاقة الاحتكارية» جزء لا يتجزأ من تاريخ لبنان وجذورها عميقة جدّاً لدرجة أنها ستجد لنفسها أرضاً خصبة في أي حكومة ومجلس نيابي حتى لو سقطت كل السلطة الحالية وحلّت واحدة مختلفة تماماً مكانها. ثمة أمر بسيط هنا، يكمن في إلغاء المادة التي تسمح بالحصرية، أقله كخطوة أولى باتجاه حلّ شامل.
كتلة التنمية والتحرير (قاسم هاشم- ياسين جابر- فادي علامة- إبراهيم عازار) بالإضافة إلى النائبين بلال عبدالله وجهاد الصمد، تقدّموا باقتراح قانون يرمي إلى إلغاء الاحتكار والتمثيل الحصري، وقد وُضع على جدول أعمال جلسة اللجان المشتركة يوم الأربعاء المقبل. اقتراح القانون عبارة عن مادتين (تنص المادة الثانية على العمل بالقانون فور نشره في الجريدة الرسمية)، تتحدّث أولاهما عن تعديل نص المادة 2 من المرسوم الاشتراعي 34/1967 المعدلة بموجب المادة 2 من المرسوم رقم 9639 تاريخ 6/2/1975 لتصبح على الوجه التالي: «كل عقد تمثيل تجاري ينشأ بعد العمل بهذا المرسوم الاشتراعي يجب أن يكون خطياً ويمكن أن يكون لمدة محددة أو غير محددة ولا يسري بند حصر التمثيل على الأشخاص الثالثين مطلقاً، ويُمنع احتكار أي سلعة تحت أي مسمى». وتُلغى الفقرات 3 و4 و5 من المادة الرابعة من المرسوم الاشتراعي 34/1967 التي تتمحور حول إعطاء امتيازات للممثلين التجاريين (الوكلاء الحصريين)، كما تُلغى المادة 15 من المرسوم الاشتراعي رقم 73 الصادر في 9 أيلول 1983 (حيازة السلع والمواد والحاصلات والاتجار بها) المتعلقة بالاحتكار والمضاربة غير المشروعة، وتصبح كما يلي: «كل عمل من الأعمال المبينة في المادة السابقة (يعتبر باطلاً حكماً، بالنسبة للمتعاقدين أو المتكتلين سواء أكان هذا ظاهراً أو مستتراً، ولا يجوز لهم التذرع بهذا البطلان إزاء الغير للتنصل من مسؤولياتهم»، بحيث تمّ حذف فقرة إضافية تقول أنه «بالرغم من أن النص مخالف، لا يسري بند حصر التمثيل التجاري على الأشخاص الثالثين، إلا إذا أعلنه الوكيل بقيده في السجل التجاري، وعلى المواد المصنفة من الكماليات دون سواها». تجدر الإشارة هنا إلى أنه في العام 1992، صدر مرسوم تحت الرقم 2339 حُدِّدت فيه المواد التي لا تعتبر من الكماليات والتي لا تسري عليها الوكالات الحصرية، وهي المواد الغذائية للاستهلاك البشري والحيواني لجميع أسمائها وأنواعها وأصنافها، ومواد التنظيف ومساحيق الغسيل. وجرى التعامل مع الدواء والمحروقات على أنها كماليات، فأُبقيت تحت سيطرة كارتيل الوكالات لتتحكم بها وبرقاب المواطنين تالياً. ما من صورة أوضح لذلك سوى ما يجري حالياً من انقطاع للدواء وفقدان للمحروقات.

في الأسباب الموجبة للاقتراح، رأى واضعوه أن «الإلغاء الكلّي للوكالات الحصرية ليس إلغاء للوكالات التجارية إلا أنه إلغاء للاحتكار والحصرية، وبقدر ما هو سماح لجميع التجار، على قاعدة المساواة ومنع الاحتكار أن يمارسوا حقهم في الحصول على وكالات تجارية أي زيادة العرض الذي يؤدي إلى انخفاض السعر والمنافسة الحرة ويمنع الاحتكار».
هذه المحاولة لإلغاء الوكالات ليست الأولى، سبقتها محاولة في العام 2003 أحبطها النواب، وأخرى في العام 2004 حيث أقرّ النواب قانوناً معدلاً لمشروع قانون الحكومة رقم 7484 الذي تُلغى بموجبه الوكالات الحصرية ورسم الـ 5 في المئة. لكن رئيس الجمهورية، اميل لحود، ردّ القانون يومها بعد حملة شرسة قوامها سياسيون وإعلاميون ورجال دين يعملون في خدمة المحتكرين، وجرى التسويق لهذه الحملة على أنها تمس بحقوق طائفة معينة، وبأن الاحتكار يخدم المستهلكين من منطلق أن إلغاءه يعرّض جودة السلع المستوردة للخطر.
وعلى قدر أهمية إلغاء الوكالات الحصرية، إلا أن بعض أصحاب الاختصاص يشددون على ضرورة تنظيم السوق وضبطه بالتزامن مع تحديد أسس المنافسة ومعاييرها. فاقتراح كتلة التنمية والتحرير، وفي حال لم يُقرَن بقانون لفرض المنافسة، قد ينقل السوق من احتكار إلى آخر. فالواقع أن ثمة قانون منافسة مقدم من كتلة الوفاء للمقاومة يستند بمعظمه إلى القانون المُعدّ سابقاً من الوزير السابق منصور بطيش بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي والإسكوا والبنك الدولي ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، وهو يناقش في إحدى اللجان الفرعية اليوم. واقتراح المنافسة يتطرق في مواده الـ70 إلى مكافحة الاحتكار والحصرية. لذلك «تبسيط الأمر وحصره بإلغاء الوكالات الحصرية، يخلق نظاماً حُرّاً مبالغاً فيه يوازي الأنظمة المتخلفة التي تحكمها شريعة الغاب. بينما قانون المنافسة يُنظم عملية الاستيراد والتجارة في البلد كما حجم المنافسة ولا يأخذنا من احتكار إلى فوضى ستؤدي إلى طغيان في السوق واحتكار من نوع آخر». فإلغاء الوكالات الحصرية، من دون إقرار قانون المنافسة، لا يمنع أصحاب الوكالات من الاستمرار في الهيمنة على السوق، وعلى التحكم بالأسعار، وعلى إخراج كل من يريد منافستهم من السوق الذي يهيمن بعضهم عليه منذ أكثر من قرن. من دون إقرار قانون للمنافسة يفرض سقفاً للحصة التي يمكن أي تاجر أن يهيمن عليها في السوق، يستطيع أصحاب الوكالات، وإنْ بعد إلغائها، عقد اتفاقات مع الشركات الأجنبية التي يمثلونها، من أجل منع أي منافس لهم من استيراد السلع التي يبيعونها في لبنان!