الكاتب: د. جواد الهنداوي
يكاد يكون استحضار منظور الثنائي المتخاصم (ايران و امريكا ) فرضاً عندما نتناول بالشرح وبالتحليل ملفات منطقتنا ، بل و حتى عند تناولنا مواقف و نزاعات دولية اخرى . عندما نتكّلم عن العراق او عن اليمن او عن سوريا او عن لبنان ، نجدُ لزاماً علينا دراسة الحالات والمواقف وفقاً للرؤية الامريكية و الايرانية ، كذلك الحال عندما نتناول ونستشرف الشأن الافغاني ، وغيرهِ . صاغ و عرّف مفهوم ” الاحتواء” نظرياً ، السياسي الامريكي جورج كينيان ،عام ١٩٤٧، اي بعد الحرب العالمية الثانية ، ودخول العالم في فترة الحرب الباردة ؛ حرب باردة بين القوتيّن الدوليتيّن : الولايات المتحدة الاميركية و الاتحاد السوفيتي . تمثلّت سياسة الاحتواء الامريكية حينها بانشاء قواعد عسكرية و تحالفات دولية ،من اجل حصار و تطويق الاتحاد السوفيتي . لم يعُدْ وجود لا للحرب الباردة ، و لا للاتحاد السوفيتي ، و لا لذات آليات و تطبيقات مفهوم ” الاحتواء ” التي سادتْ في القرن الماضي .
حتى أمريكا ، التي صاغت وطبّقت مفهوم وسياسية الاحتواء خلال نصف قرن ( ١٩٤٧ – ٢٠٠١)، تخّلت عنه ،حين اختارت العصا و الحروب في فرض سياستها و تحقيق اهدافها . بتقديري ، تُريد امريكا الآن الاستعانة ،من جديد ، بسياسة الاحتواء ، بعد أنْ فشلت في سياسة الحروب ، وفي سياسة توظيف الجماعات المسلحّة و الارهابية،و بعد ما ادركت بُعد و عُمق التغييرات السياسية و الاقتصاديَة و الاجتماعية التي شهدها العالم .
الادارة الامريكية الحالية تؤمن في الدبلوماسية وتتبناها كحل وكمخرج للازمات ، و الدبلوماسية اداة اساسية و فعّالة لتنفيذ ، وبنجاح ، سياسة الاحتواء. والاحتواء هو إمّا أحتواء فاعل ( دولة او حركة ) و إمّا احتواء أزمة . الاتفاق بين امريكا و حركة طالبان ،والذي تّمَ بوساطة و بدور لدولة قطر، شاهد و تطبيق عملي على سياسة الاحتواء (احتواء لفاعل ، احتواء لحركة طالبان ؛احتواءها بشروط الاتفاق ، و بأدوار لحلفاء امريكا و بالاخص فرنسا وبريطانيا ،واللتان دخلتا ، وبقوة مع المعارضة الافغانية بقيادة احمد شاه مسعود (الابن).
شاهد آخر على التوجهّ الامريكي في سياسة الاحتواء ، و هو سعيّها لاحتواء ازمة جلب الوقود من ايران ، او أزمة سفن المساعدات الايرانية للبنان ، تتجلى سياسة الاحتواء في اعلان امريكا لموافقتها على تزويد لبنان بوقود من مصر عبر الاردن وبكهرباء من الاردن عبر سوريا . نعتقدُ اذاً ،وعلى ضوء الموقف الاحتوائي الامريكي لازمة الوقود الايرانية القادمة الى لبنان ، بمرور سالم وسلس للسفن الايرانية القادمة الى لبنان ؛ إما من خلال مرفأ بيروت او من خلال مرفأ بانياس السوري . و اقصد بالموقف الاحتوائي للأزمة هو منع تفاقمها وتطوّرها ،حتى و إن كان ذلك على حساب مصلحة الدولة او هيبة الدولة التي تمارس سياسة الاحتواء . في سياسة الاحتواء الامريكية ، تستبدل امريكا الحرب العسكرية بأدوات قسرية اخرى، وبحصار وبعقوبات اقتصادية ،وذلك من اجل اخضاع الدولة المعنيّة و انصياعها للأملاءات والمصالح الامريكية، و حالة سوريا ولبنان تشهد على ذلك . ماذا عن سياسة الاحتواء الايرانيّة ؟ مارست ايران وبنجاح سياسة الاحتواء في المنطقة ، و اعتبرتها وسيلة فعّالة في الحفاظ على نفوذها وحماية أمنها القومي.
اعتمدت الجمهورية الاسلامية الايرانية على وسيلتيّن اساسيتّن في ممارسة سياسة الاحتواء: على الدبلوماسيّة وعلى حركات التحرر والمقاومة والفصائل المسلّحة ، والحركات الاشتراكية او اليسارية المناهضة للأمبريالية ،كما هو الحال مع دول امريكا اللاتينية. تصبحُ الدولة ( ايَّ دولة) في مساحة الاحتواء الايراني عن طريق العلاقات الدبلوماسية و العلاقات المتشعّبة وعن طريق دعمها لحركات المقاومة الفاعلة والرافضة للاحتلال والوجود الامريكي والاسرائيلي ؛مثال على ذلك، دعم ايران لحركات المقاومة ضّدْ الاحتلال الاسرائيلي ( الجهاد الاسلامي و حركة حماس )، وهذا الدعم اعطى لايران دور مهم في شأن القضية الفلسطينية؛ دعم ايران لحركة الحوثيين وللجان الشعبيّة سيمكّن ايران من الاحتفاظ بدور احتوائي في اليمن . كذلك الحال في سوريا و في العراق وسيكون الدور الاحتوائي حاضر و فاعل كذلك في افغانستان ،لما كان لايران من علاقات و مواقف مع حركة طالبان الافغانية، التي اصبحت الآن هي الدولة ، كما انَّ لايران حدود مشتركة تزيد على ١٣٠٠ كغم مربّع ، وعلاقات اجتماعية وثقافية.
أقصدُ بالدور الاحتوائي الدور الذي يمنع ويحول دون التمدد الامبريالي الصهيوني ، والذي تراه ايران خطراً على امنها القومي وخطراً على امن واستقرار المنطقة، و وسيلة لنهب ثروات وخيرات البلد وتعطيل قدراته، وبطبيعة الحال، تسعى ايران، من ممارسة سياسة الاحتواء الحفاظ على مصالحها ونفوذها. ولطالما رفضت ايران مناقشة نفوذها في المنطقة مع الطرف الامريكي والدولي خلال محادثات الملف النووي، ورفضت كذلك عروض امريكية بتخفيف الحصار او برفعهِ شرط موافقة ايران على مناقشة دورها ونفوذها في المنطقة. سفير سابق /رئيس المركز العربي الاوربي للسياسات وتعزيز القدرات.