أحمد المسلماني* -أساس ميديا
كانت المرّة الأولى حين زرتُه مع العالم الكبير الدكتور أحمد زويل في مدينة الرياض، وكان الأمير محمد بن سلمان يجلس إلى جوار الملك. وفي المرّة الثانية كنتُ مع الرئيس السابق عدلي منصور في مدينة جدّة.
حين تولّى الملك سلمان عرش المملكة توقّعت دوائر التفكير الغربية أن يكون أكثر محافظةً من سلفه الملك عبد الله بن عبد العزيز، وقالت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية إنّ الملك سلمان ينتمي إلى تيّار الملوك المحافظين، وإنَّه لن يكون داعماً للإصلاح والتغيير.
لم تكن توقّعات هذه الدوائر صحيحة، إذْ سرعان ما قام الملك سلمان ووليّ العهد الأمير محمد بن سلمان بإصلاح واسع، أضعف المحافظين، وحاصر الدوائر المتطرّفة، ووجَّه المؤسّسات الدينية صوب طريق الاعتدال. وأطلقا رؤية “المملكة 2030” التي لقيت صدىً واسعاً. وفي أيّار 2021 أدّى الملك سلمان صلاة عيد الفطر في مدينة نيوم، التي تعدّ رمزاً للرؤية الجديدة.
* * *
التقيتُ الملك سلمان، للمرّة الأولى، مع الدكتور أحمد زويل، في قصر الحُكم بالرياض. قال لي الدكتور زويل ونحن في الطريق إلى القصر: “السعودية لا تمثِّل لي فقط ما تمثِّله لكلِّ العرب والمسلمين، بل هي تزيد على ذلك بأنَّها الإطار الذي نشأت فيه عائلتي، ديما ونبيل وهاني. أنتَ تعرف القصّة بالطبع، فقد نشرناها في المذكّرات”.
كان الدكتور زويل يشير إلى كتابه “عصر العلم” الذي تشرّفتُ بتحريره وتقديمه، وهو الكتاب الذي يضمّ قصة حياة الدكتور زويل، وكتبَ مقدّمته الشرفيّة الأديب العالمي نجيب محفوظ.
في عام 1989 فاز الدكتور أحمد زويل بجائزة الملك فيصل العالمية. وفي حفل الجائزة التقى بالدكتورة ديمة الفحام، التي أصبحت زوجته. يقول الدكتور زويل في كتابه “عصر العلم”: “كنتُ أوّل عربيّ يحصل على هذه الجائزة في العلوم أو الطبّ. كان المضيفون السعوديون فخورين بي، واستقبلوني بودٍّ وترحاب”.. “تقابلت في الرياض بسيّدة شابّة تدعى ديمة الفحام، جاءت برفقة والدها الدكتور شاكر الفحام الذي مُنِح جائزة الملك فيصل في الأدب. وكان الدكتور الفحام وزيراً للتعليم في سوريا”.. “وتحدّثت معها مراراً عبر الهاتف عقب عودتي إلى باسادينا، واستمرّ الحال على هذا المنوال إلى حين، وبعدما تخطّت قيمة فواتير مكالماتنا الهاتفية حجم ميزانيّاتنا، قمتُ برحلة إلى سوريا في أيّار 1989”.
كُنَّا على وشك الوصول إلى قصر الحكم حين قال لي الدكتور زويل: “الرياض تمثِّل لي الذكريات الرائعة: الجائزة والعائلة”.
* * *
كان لقاؤنا بالملك سلمان في مطلع عام 2008، وكان خادم الحرمين الشريفين وقتها أميراً للرياض. لفت الطراز المعماري لقصر الحكم انتباه الدكتور زويل، فقال لي: “هذا القصر يجمع بين الأصالة والمعاصَرة على نحو فريد. يجب أن نعرف أكثر عن تاريخ هذا المكان”.
أدارَ الملك سلمان إمارة الرياض من مكتبه في قصر الحكم خمسين عاماً، وهو مكتب أنيق تحتلُّ فيه المكتبة موقعاً رئيسياً، حيث تقع قبالة الصالون الرئيسي، وتشكِّل الملمح الأبرز في المكان.
* * *
عند المصافحة في بداية اللقاء، قال لي الملك سلمان إنّ “عائلة المسلماني منتشرة عندنا في منطقة حائل، فهل عائلة المسلماني في مصر لها صلة بالعائلة هنا؟”. كان ذلك التساؤل ودوداً جدّاً، وبالنسبة إليّ فقد أَلانَ كثيراً من رسميّة اللقاء، الذي امتدَّ تسعين دقيقة.
كان الملك سلمان، ومنذ ذلك الوقت، يمتلك رؤية واضحة للأمور، وكانت أفكاره بشأن ما يجب أن يكون حاضرة وحاسمة. قال لي الدكتور زويل عقب اللقاء: “الأمير سلمان قارئ واسع الاطلاع، من النادر أن أسمع مسؤولاً عربياً يشير إلى كتب ومراجع في حديثه. لقد فاجأتني أيضاً الرؤية الإصلاحية التي استمعتُ إليها. وبالنسبة إليّ، أنا العالِم، كان هذا اللقاء أقرب إلى عقلي. فالمسار الفكري واضح تماماً، إذْ لم أجد في الحديث ما اعتدتُ سماعه من السياسيين، حيث المقولات العامّة، والمفردات الضبابيّة، والعبارات التي تحتمل الشيء ونقيضه”.
ثمّ واصلَ الدكتور زويل: “الأمير محمد بن سلمان كان مقتنعاً ومؤيّداً لكلّ ما يسمع. يبدو أنّ هناك نقاشاً وتوافقاً على المسار الإصلاحي، الذي يتوجَّب على المملكة المضىيّ في سبيله”.
* * *
حدّثنا الملك سلمان عن نظرية الدولة في التجربة السعودية، وعن جوانب من تاريخ الإسلام ومن جغرافيا المملكة، وعن الوضعين الإقليمي والدولي.
تبدّت لي الملامح الفكرية لرؤية الملك في التالي:
1- الملمح الأول كان بشأن الخطر الذي تمثِّله إيران، وأخطار التمدُّد الشيعي في المنطقة والعالم. تحدّث الملك طويلاً عن إصرار طهران على تصدير الثورة. وهو ما يعني تصدير المذهب، الفكر والفقه والسياسة، حتى تصل إيران في نهاية المطاف إلى تمرير نظرية الخميني حول “ولاية الفقيه” في مناطق أخرى من العالم الإسلامي.
وحذَّر الملك من نموّ إمبراطورية شيعية على النحو الذي كانت عليه الدولة الفاطمية، إذا لمْ تكن هناك وقفة للعالم الإسلامي ضدّ المشروع الإيراني. وعند هذا الحدّ من الحديث، نادى أحد مساعديه ليأتيه من المكتبة بكتابٍ للمؤرّخ الأستاذ جمال بدوي عن الدولة الفاطمية.
كان الملك يعرف مكان الكتاب في مكتبته، وقال إنّه يلجأ إليه كثيراً لمعاودة الاطّلاع وإعادة النظر. وراحَ يشرح جانباً من كتاب جمال بدوي “الدولة الفاطمية.. دولة التفاريح والتباريح”، ولا سيّما ما يتعلّق بآليّات التسلُّل الفاطمي في المجتمعات السنّيّة.
كان تقدير الملك أنّ الحلّ الوسط مع المشروع الإيراني صعب جدّاً، وأنّ من غير السهل ضبْط المسافة الأيديولوجية بين إيران وبين العالم الإسلامي. كان الملك واضحاً في أنّ الخصومة هي مع المشروع وليس الدولة، وأنّ تلك الخصومة لم تكن موجودة في زمن الشاه. إذ لم يكن هناك مَن يتحدّث عن السُّنّة والشيعة، حتّى جاء الخميني وبدأ الانقسام في العالم الإسلامي.
كان الملك في بعض آرائه واصلاً إلى صعوبة “السلام الديني” في ظلّ بقاء المشروع الإيراني على ما هو عليه، وأنّ الأمر قد يصبح لاحقاً “صراع وجود لا صراع حدود”. وقد تنزلق المنطقة بكاملها إلى حافَّة الحرب، وهو ما يجب منعه بكلّ السُّبل.
* * *
2- كان الملمح الفكري الثاني، حسبما سمعت من الملك، هو دور الدين في الحفاظ على المملكة. قال الملك إنّ “السعودية أراضٍ شاسعة، وقبائل عديدة، ومن الصعب أن يجتمع كلّ هؤلاء في هذه المساحة من دون مشروع توحيد حقيقي. هذا المشروع هو الإسلام. الإسلام هو الرابطة التي أقامت الدولة، ومن دون هذه الرابطة لم تكن لتقوم هذه الدولة. والاعتماد على الشرعية الدينية سيظلّ دوماً في مصلحة الدولة، ذلك أنّ ما سبق أن أقامها هو ما يمكنه أن يستمرّ في الحفاظ على بقائها”.
هنا تحدّث الدكتور أحمد زويل قائلاً: “في بعض وسائل الإعلام الغربية يقولون إنّ الوهّابية هي التي تحكم السعودية، وإنّ “الإسلام الوهّابي” هو أساس شرعيّة الدولة”. وكان ردّ الملك: “لا يوجد شيء اسمه الوهّابية. هم يهاجموننا بهذا المصطلح. نحن مسلمون سُنّة نحترم المذاهب الأربعة. وينتمي إسلامنا إلى نبيّ الإسلام (محمد صلّى الله عليه وسلّم) وليس إلى أحدٍ غيره”.
وتابع: “أمّا الإمام محمد بن عبد الوهاب فقد كان فقيهاً كبيراً، وصاحب علم، لكنّه لم يأتِ بجديد، ولم تقُم الدولة السعودية الأولى بتأسيس مذهب جديد. إنّهم يقولون ذلك عنّا حتّى يربطون بيننا وبين التطرّف والإرهاب. هذا غير صحيح. الفكر الإسلامي الحاكم في السعودية يقف ضدّ التطرّف، ويحارب الإرهاب، وقد أصبحنا نملّ كثيراً من وصفنا بالوهّابية. هذه كلمة غير صحيحة وغير مقبولة من جانبنا”.
ثمّ تحدّث الملك عن احتياج المملكة إلى التحديث والانفتاح على العالم.. وقال إنّ “طبيعة الحياة هي التطوّر، وإنَّ بعض القوانين عندنا لا يمكن أن تستمرّ، مثل منع المرأة من قيادة السيارة. ويحتاج هذا المستوى من الأداء لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى تقويم ومراجعة. لدينا أعداد كبيرة من الشباب، وكثير من هؤلاء الشباب تلقّوا تعليماً رفيعاً، وهناك مئات الآلاف ممّن تلقُّوا بعضَ تعليمهم في الخارج. كلُّ هؤلاء يريدون أن يرَوْا “سعودية جديدة” تناسب طموحاتهم وآمالهم. نحن ندرك ذلك جيّداً، وسوف يحدث هذا التغيير.. وسيكون في هذا الاتّجاه”.
* * *
3- ثمّة ملمح فكري آخر: وهو عدم إمكان إنجاز أيّة رؤية عربية من دون مصر، وعدم إمكان مواجهة التحدّيات الإقليمية والدولية بدون أن تكون مصر حاضرة.. وفي موقعها الطبيعي.
لقد سمعتُ ذلك مرّة أخرى من العاهل السعودي في لقاء بينه وبين الرئيس المصري السابق المستشار عدلي منصور. تحدّث الملك عن معرفته التامّة بالقاهرة، التي ربّما تفوق معرفة المصريين أنفسهم بالعاصمة. وروى وقائع تطوّعه في الجيش المصري في حرب عام 1956، وتحدّث عن الارتباط الكبير بالثقافة والفكر ونمط الحياة المصرية.
* * *
اليوم تمضي السعودية، كما تحدّث الملك قبل سنوات، في محاولات مستمرّة لضبط التوازن مع إيران، وإضعاف نظرية ولاية الفقيه.
واليوم أيضاً تمضي المملكة إلى حقبةٍ جريئةٍ من التحديث والانفتاح. وهي حقبة يراها البعض أسرع وأكبر من التوقّعات، وجوانب عديدة منها كانت قبل قليل في عداد المستحيل.
* * *
لا تزال المملكة على انفتاحها تحاول تحقيق التوازن بين أحكام الدين ومتطلّبات الدولة، بين القيم والعصر، بين المسجد والحداثة.
يقول زائرو المملكة إنّ الوضع بات أفضل، وإنّ مساحة الأمل تزداد بين الشباب والنساء، ولدى قطاعات واسعة من المثقّفين.
كثيرة هي العيون التي تراقبُ المملكة. وتدرك دول الجوار أنّهُ إذا عطستْ الرياض أُصيب الخليج بالزكام.
تواجِه المملكة والمنطقة تحدّياتٍ تاريخيةٍ.. وبقدر اجتيازها سيكون شكل المستقبل.
*كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً لرئيس الجمهورية المصرية السابق عدلي منصور..
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
عضو مجلس جامعتيْ طنطا ومطروح، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.