علي نور الدين -أساس ميديا
ربطة الخبز المسعّرة رسمياً بحدود 4.250 ليرة، يمكن العثور عليها في سوق موازية غير شرعيّة بأسعار تصل إلى 7000 ليرة للربطة الواحدة، أي ما يزيد بنسبة 65% على التسعيرة الرسميّة. وكلّما ابتعدنا أكثر عن نطاق العاصمة، اتّسع نطاق هذه السوق غير الشرعيّة، بالتوازي مع ندرة ربطات الخبز التي تُباع وفق السعر الرسمي في المحلّات. أمّا أخطر ما في الموضوع فهو إمكان تطبيع هذه الظاهرة، كما جرى في سوق المازوت والأدوية، ليصبح الأمن الغذائي للّبنانيين معتمداً على سوق غير نظاميّة تقودها فوضى الأسعار وابتزاز الناس بلقمة عيشهم.
أزمة المطاحن
يتعلّق الجانب الأوّل من الأزمة بأوّل مرحلة من سلسلة الإنتاج، أي المطاحن التي تستهلك المازوت والقمح المدعومين لإنتاج الطحين وتوريده للمخابز. تعتبر المطاحن أنّ ما يصلها من هذه الموادّ المدعومة غير كافٍ لتغطية حاجة السوق، وهو ما يؤدّي إلى تناقص كمّيّات الخبز الذي تنتجه، فتظهر السوق السوداء للتعامل مع ظاهرة شحّ العرض قياساً بالطلب. ولا تستطيع المطاحن الاعتماد على مازوت السوق السوداء نظراً إلى ارتباط مبيعاتها بالتسعيرة الرسميّة الصادرة عن وزارة الاقتصاد. لذا ستتكبّد المطاحن خسائر لا يمكن تعويضها في التسعيرة إذا تضاعفت كلفة الإنتاج.
لهذا السبب استمرّ الكباش طوال الأسابيع الماضية بين المطاحن من جهة، وكلّ من المديريّة العامة للنفط ووزارة الاقتصاد. المطاحن متّهمة بتسريب بعض المحروقات المدعومة الواردة إليها إلى السوق السوداء، على اعتبار أنّ بيع هذه المحروقات هناك أجدى وأربح من استعمالها في عمليّاتها الإنتاجيّة. في حين المطاحن تصوّب على وزير الاقتصاد الذي يتصرّف وكأنّ ملفّ المحروقات لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد، على الرغم من اتصال الملف بشكل وثيق بإنتاجيّة أكثر القطاعات حساسيّة.
في بداية هذا الأسبوع، تمّ التوصّل إلى تسوية بين كلّ من المطاحن ووزارة الاقتصاد والمديريّة العامّة للنفط والشركات المستوردة للمحروقات. وقد نصّت التسوية على ما يلي:
– تمّ احتساب حاجة المطاحن الشهريّة إلى المازوت، فتبيّن أنّ المطاحن بحاجة إلى ما يقارب مليون ليتر من المازوت لبلوغ الطاقة الإنتاجيّة القصوى. وحتى تاريخ إجراء هذه التقديرات، قد اُفتُرِض أنّ ساعات تقنين مؤسسة كهرباء لبنان ستبلغ نحو 20 ساعة يوميّاً خلال الفترة المقبلة.
– لتأمين هذه الحاجة، تعهّدت كلّ من المديريّة العامة للنفط والشركات المستوردة للمحروقات بتوفير نحو 310 آلاف ليتر من المازوت كلّ عشرة أيام، وهو ما يُفترض أن يلبّي حاجة المطاحن الشهريّة إلى المحروقات.
– في المقابل، تعهّدت المطاحن بتلبية حاجة الأفران إلى الطحين طوال الفترة المقبلة، عند الحصول على المحروقات على النحو المفصّل في هذه التسوية.
يُتوقَّع لهذه التسوية أن تُنهي جانب الأزمة المتعلّق بالمطاحن، خصوصاً أنّ عدد المطاحن المرخّصة من قبل وزارة الاقتصاد والتجارة لا يتخطى 11 مطحنة، وهذا ما يسهِّل ضبط استهلاكها للقمح والمازوت. لكنّ الإشكاليّة الكبرى تكمن اليوم في جانب الأزمة المتعلّق بالمخابز والموزّعين، وهو ما لم يُعالَج بعد.
أزمة المخابز والموزّعين
يتمثّل المستوى الثاني من عمليّة الإنتاج في مخابز تستفيد من الطحين والمازوت لإنتاج الخبز، الذي يُباع لاحقاً إلى المحالّ التجاريّة عبر الموزّعين. هنا تكمن المشكلة الكبرى التي لا تزال تعيق توفير حاجة السوق من الخبز، إذ يصعب ضبط كيفيّة استعمال المخابز للمحروقات والطحين المدعوميْن بالنظر إلى عددها الكبير. ويصعب ضبط البيع والتأكّد من تسويق الإنتاج وفقاً للتسعيرة الرسميّة من قبل الموزّعين وصالات الأفران.
يحقّق للمخابز بيعُ الطحين والمازوت في السوق السوداء، بعد شرائهما بالسعر الرسمي، أرباحاً طائلة تفوق بأضعاف ربحَ العمليّات التشغيليّة، وهذا ما يفتح باب سوء الظنّ ببعض المنتجين الذين أقفلوا أبوابهم منذ فترة بحجّة عدم توافر المحروقات أو الطحين. وهذه الظاهرة، بالتحديد، مثّلت أحد أسباب شحّ الخبز في السوق. في الوقت نفسه، أدّت أزمة شحّ المحروقات الأخيرة إلى قيام عدد كبير من المخابز والموزّعين بتقنين كميّات الخبز التي يورّدونها إلى المحالّ التجاريّة، لتقليص كلفة النقل، فانفتح باب شراء الخبز من قبل تجّار السوق السوداء لبيعه بأسعار تفوق التسعيرة الرسميّة.
في الوقت الراهن، تشير المخابز إلى حاجتها إلى أكثر من خمسة ملايين ليتر من المازوت شهريّاً للتمكّن من ملء الفجوة القائمة بين العرض والطلب، وهي كميّة تتجاوز خمسة أضعاف حاجة المطاحن إلى المازوت. وفي شدّ الحبال القائم بين وزارة الاقتصاد والتجارة من جهة، والمخابز من جهة أخرى، تحاول الوزارة حاليّاً فرض حلول من قبيل توزيع المازوت وفقاً لآليّة “البونات”، بعد التحقّق من تصريح المخابز عن مبيعاتها في الصالات وعبر الموزّعين. لكنّ العديد من المصادر العاملة داخل القطاع يستبعد أن تتمكّن الوزارة من ضبط سلسلة الإنتاج، بالنظر إلى تشعّب السوق وتوزّع عمليّاتها على عدد كبير جداً من المؤسسات الصغيرة والمتوسّطة الحجم. أمّا أهمّ ما في الموضوع، فهو صعوبة ضبط هويّة الأشخاص الذين يقومون بشراء الخبز من داخل الأفران، قبل توزيعه في المناطق.
إلى أن ينتهي الكباش بين الوزارة والأفران، ستبقى السوق السوداء سيّدة الموقف، سواء في ما يخصّ الطحين الذي بدأ بالتسرّب إليها منذ مدّة، أو الخبز اليوم. وعلى أيّ حال، فكلّ ما يمكن الاتّفاق عليه اليوم لن يعدو كونه مجرّد ترقيعات مؤقّتة، ستبقى ممتلئة بالثغرات والعِقَد، ما دامت أزمة نقديّة أوسع وأكبر تضرب جميع القطاعات المتّصلة بالموادّ الأساسيّة والحيويّة.