بعد الاستحقاقات الأخيرة التي شهدتها السنوات الماضية، والتي أثرت مباشرة على أمن كيان الاحتلال خاصة بعد معركة “سيف القدس” والمعادلة الجديدة التي فرضها حزب الله التي شملت عمق المياه الإقليمية، إضافة لانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان وما له من تداعيات مباشرة على استقرار “إسرائيل”. كل هذه التهديدات المتراكمة اعتبرتها أوساط عسكرية إسرائيلية أنها أخطر من النووي الإيراني رغم التهديد الكبير الذي يمثلّه أيضاً.
صحيفة “معاريف” اعتبرت في مقال لها أن “منذ حرب الخليج الأولى، فقدت القوات العسكرية الإسرائيلية قدرة ردع العدو من إطلاق الصواريخ نحو الجبهة الداخلية المدنية” مشددة على ان هناك ” شروط استسلام وضعت على إسرائيل الأمر الذي هو تهديد خطير على وجود إسرائيل قبل النووي الإيراني بكثير”.
النص المترجم:
ما يجري في بلادنا في الأشهر الأخيرة يذكرنا بالنورس بما ورد في كتاب لوبا ألياف “بلاد الغزال”، الذي نشر قبل نحو سنة من حرب يوم الغفران. ينظر النورس من علو طيرانه إلى سفينة الاستمتاع، يصفّر ويحذر مسافريها بينما يقف على جسر القيادة قباطنتها سكرى بخمر مجدهم واثقين بأنفسهم وبمكانتهم، ويقودون سفينتهم في البحر العاصف مباشرة نحو التحطم على الصخور. منذ زمن طويل وخبراء كثر وطيبون يصرخون بنداء النورس، وليس ثمة من يستمع لصرختهم، ابتداء من عمانويل فالد الراحل، عبر أمانتسيا حن، واوري ميلشتاين، وإسحق بريك، وغرشون هكوهن، وآري شافيت، وايلي ديكل، وغيرهم.
يعِدّ الأمن القومي، بروح مذهب يهوشع هركابي (من عظماء المفكرين في هذا المجال)، جملة كاملة من المواضيع التي لا تتلخص في جوانب الحرب والاستراتيجية العسكرية. فقوة ومتانة الدولة متعلقتان بالميزان الذي بين المقدرات المستثمرة في القوة العسكرية من جهة، ومن جهة أخرى باقي المقدرات في العموم الوطني، التي تضمن قوة صمود مواطني الدولة في وقت الأزمة، بما فيها: الدفاع عن الجبهة الداخلية؛ وضمان الحركة في داخل حدود الدولة وخارجها، بما في ذلك قدرة نقل القوات في خطوط داخلية وخارجية؛ وضمان التوريد الجاري للغذاء والطاقة والمياه؛ والحركة الحرة في البر في الجو والبحر من الدولة وخارجها؛ وكذا حماية صحة الشعب ومعنوياته الوطنية والأمن الشخصي في أوقات الطوارئ؛ وإحباط الإرهاب النابع من تهديدات داخلية، في الوقت الذي تستعد فيه القوة العسكرية وتتجند للحرب ضد التهديد الخارجي.
غيّرت إسرائيل وجهها في العقود الثلاثة التي انقضت منذ اتفاقات أوسلو، وباتت إنجازاتها الاقتصادية والعلمية والقومية، التي تثير الحسد والعجب في أوساط أمم العالم، تقف أمام أزمة اجتماعية واقتصادية عميقة تعرض وجودها للخطر وتدخل عرب إسرائيل إلى هذه المعادلة كعدو داخلي.
حملة “حارس الأسوار”، التي تعد واحدة من حملات كثيرة تندرج على لسان مفكرينا الاستراتيجيين في إطار “المعركة بين الحروب” كشفت عن إخفاقات بنيوية في جهاز الأمن القومي، الذي يؤدي الجمود المتواصل وانعدام القدرة على التحرر منه بإسرائيل إلى خط وجودي، كما يوصف في فصل سياسة الأمن القومي “لهركابي في كتابه حرب واستراتيجية”.
جمود “مفهوم الاحتواء”
منذ حرب الخليج الأولى، فقدت قوتنا العسكرية قدرة ردع العدو من إطلاق الصواريخ نحو الجبهة الداخلية المدنية، وأصبح التهديد ملموساً بسبب جمود “مفهوم الاحتواء” لدى الجيش الإسرائيلي، الأخ غير القانوني لمفاهيم “ليس هناك من ننتصر عليه” و “لا حل للإرهاب الذي يسيطر على السكان المدنيين”.
هزيمة العراق في 2003 واتفاقات السلام التي وقعت مع الأردن ومصر، ومؤخراً مع دول الخليج، أدت إلى مفهوم خطير يقضي بأن تهديدات الحرب الشاملة ضد الجيوش النظامية انتهت من العالم. ونتيجة لذلك، في أثناء السنوات الثلاثين الأخيرة، فكك الجيش الإسرائيلي قسماً كبيراً من الجيش البري لقوات الاحتياط – القوة الأساس في قدرة الدولة على الدفاع عن وجودها بكل مقياس.
إذا نظرنا إلى وضع قوات الذراع البري فسنكتشف أنه حيال القوة العسكرية الهائلة التي يتمتع بها جيش المصري في سيناء – والذي بني في ظل الخرق الواضح لاتفاقات السلام – تقف فرقة لوائية واحدة فقط ستضطر عند الطوارئ إلى التصدي لبنية تحتية مصرية لوجستية واسعة النطاق من الوقود والوسائل القتالية التي تسمح بأن تلقي على النقب، في أقل من 12 ساعة، موجة هجوم أولى تضم جيشاً من ثلاث فرق مدرعة، وهذا لا يشمل الألوية المستقلة التي تنضم إليها في القتال. يقصر اليراع عن وصف ما يمكن حدوثه في العودة إلى “تأهب روتم” 1960 بعد اجتياح الجيش الإسرائيلي استحكامات توفيق السورية، عندما فشلت الاستخبارات من العثور على دخول فرقة مدرعة مصرية وقفت في جبل لبني على خط الحدود في الجنوب ترافقها ألوية مشاة أخرى. ونشر الجيش الإسرائيلي القوات بصعوبة، وبعث على عجل بمعظم القوة النظامية إلى الجنوب، وبالتوازي جند الاحتياط بأوامر طوارئ.
القصور الأكبر للجيش الإسرائيلي، بمسؤولية وزير الدفاع الحالي ورئيس الأركان، كما يتبين من شهادة اللواء احتياط إسحق بريك، هو أن الفرق البرية القليلة في الاحتياط التي تبقت بعد حل الأطر وإرسال آلاف المدرعات إلى الخردة، لم تتدرب لسنوات طويلة، وباتت كفاءاتها العملياتية تحت الخط الأحمر.
أمر صادم وقع في حملة “حارس الأسوار” عندما رفض وزير الدفاع، أغلب الظن بإلهام من المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، رفض الاستجابة بداية لطلب وزير الأمن الداخلي والمفتش العام تعزيز الشرطة، التي وقفت بلا وسيلة أمام آلاف العرب الإسرائيليين الذين هاجموا جيرانهم اليهود في المدن المختلطة، في ظل تشويش حركة القوات العملياتية للجيش الإسرائيلي والشرطة في كل المحاور في البلاد، ولا سيما على طرق الجنوب. وبعد ذلك، جند مقاتلو حرس الحدود الذين نقلوا إلى المدن المختلطة.
ثمة قصور معيب آخر انكشف عندما رفض سائقو الشاحنات التي تنقل الدبابات والعتاد، والذين تستأجرهم وزارة الدفاع من شركات مدنية، الخروج إلى عملهم “كي لا يمسوا بإخوانهم في غزة”. إضافة إلى ذلك، صدر أمر قيادي فزع لجنود الاحتياط الذين جندوا، بإبقاء سلاحهم في القاعدة في أثناء الإجازة، بل والخروج إليها بلباس مدني، بزعم الجنود “كي لا يستفزوا ويوقظوا الاضطرابات مع السكان العرب” – وألغيت تدريبات التوجيه لوحدات النخبة في الجنوب لسبب مشابه.
لماذا لم يكن حتى ولا قائد قاعدة واحد من الجيش الإسرائيلي في أعمال الشغب الأخيرة، عمل بمبادرته ضد المشاغبين العرب، مثلما عمل اللواء يانوش بن غال في اضطرابات عرب الجليل في العام 1976 عندما بعث بالقوة التي تحت قيادته للقضاء على التمرد العنيف في الشمال وأعاد النظام إلى سابق عهده؟ والأخطر من ذلك، فإن العودة إلى “تأهب روتم” قبل 61 سنة لم تقض قط مضاجع سياسيينا وقادتنا، المنشغلين بشروط أجر الجنود الدائمين على حساب المقدرات اللازمة للقوة العسكرية الهابطة للجيش كعامة والذراع البري بخاصة.
إن الانسحاب الأمريكي المعيب من أفغانستان، وقريباً من العراق، بث – استمراراً لخضوعها السياسي في الاتفاق النووي الإيراني – ريح إسناد في تطلعات إيران للهيمنة الإقليمية، وهذا سيجرف السعودية ودول الخليج التي بدأت تغازلها بعد حرب ترامب، وربما تغري مصر بمواصلة التآكل في اتفاق تجريد سيناء وخلق تهديد وجودي على دولة إسرائيل. خيراً يفعل “الكابينت الأمني” إذا ما بحث في وضع يفرض فيه تحالف الإسلام، بإسناد القوة العسكرية المصرية في سيناء، على دولة إسرائيل شروط استسلام الأمر الذي هو تهديد خطير على وجود دولة إسرائيل قبل النووي الإيراني بكثير.
المصدر: معاريف
الكاتب: يوسي بلوم هليفي