مرة جديدة تجد “لجنة المال والموازنة” النيابية نفسها مضطرة للعب دور السلطة التنفيذية. فمن بعد تسلمها كرة نار “الكابيتال كونترول” الملتهبة من الحكومة، وجدت نفسها اليوم معنية بالتخفيف من وطأة الأزمة من خلال دراسة 3 أفكار وتحويلها إلى مقترحات قوانين للإقرار في البرلمان، وهي: رفع سقف السحوبات من المصارف إلى 10 آلاف ليرة للدولار، زيادة رواتب موظفي الدولة بنسبة 40 في المئة لغاية نهاية العام الحالي، وفتح اعتماد بقيمة 1200 مليار ليرة لتسديد مستحقات، ومنها بشكل اساس للقطاع الإستشفائي.
الزيادات نصف الإيرادات
باستثناء الإجراء الثالث فان بقية الإجراءات غير محددة القيمة. وبحسبة بسيطة يتبين أن زيادة 40 في المئة على الرواتب يكلف الخزينة شهرياً ما يقارب 400 مليار ليرة. واذا افترضنا أن هذا الإجراء حصر بـ3 أشهر (تشرين الأول، تشرين الثاني، وكانون الأول) فان مجمل الكلفة سيبلغ أيضاً 1200 مليار ليرة. أمّا في ما خص السحوبات، فمن المتوقع ألا تزيد المبالغ المسحوبة بسبب العمل على تخفيض سقف السحوبات الشهرية. وفي جميع الأحوال إذا أضفنا كلفة اقتراح لجنة المال المقدرة بـ2400 مليار ليرة، على كلفة رفع بدل النقل المقدرة بـ1200 مليار ليرة، واعطاء سلفة خزينة بقيمة 600 مليار ليرة كمساعدة إجتماعية تدفع على دفعتين متساويتين لموظفي الدولة، فان مجمل المبلغ سيفوق 7800 مليار ليرة. هذا الرقم يشكل حوالى 50 في المئة من مجمل الايرادات المحققة في العام 2020 (15890 مليار ليرة). فمن أين سيتأمن هذا المبلغ الهائل المقر لـ3 أشهر فقط في ظل تراجع الايرادات وعدم القدرة على الإقتراض؟
فنزويلا شاهد على فشل تجربة زيادة الرواتب
في التجارب الدولية عمدت فنزويلا منذ العام 2016 إلى زيادات دورية في الرواتب في ظل الكساد الذي تعانيه. فرفعت الرواتب قطاعياً، وبشكل عام للموظفين في الأعوام 2016 و 2017 و2018 و2019 و2021. وعلى الرغم من هذه الزيادات المتتالية على الرواتب، فان القدرة الشرائية لم تتحسن، بل على العكس فقد تراجعت بمعدلات أكبر بكثير. فمع بلوغ الحد الأدنى للأجور مؤخراً 10 آلاف بوليفار (3.5 دولارات) بلغ التضخم 3000 في المئة. وعلى الرغم من رفع الحد الأدنى للأجور إلى رقم فلكي، بقي لا يشتري كيلوغراماً واحداً من اللحمة (3.75 دولارات) أو كيلوغراماً من الجبنة (3.85 دولارات)… ولا يشتري حتى “كرتونة” بيض. فهل هذا ما ينتظرنا؟
إستنساخ الخطأ القاتل نفسه
على الرغم من الدروس المهمة الممكن استقاؤها من التجربة الفنزولية، فانه “يكفينا العودة محلياً إلى العام 2017 واستخلاص العبر من انعكاس سيناريو “سلسة الرتب والرواتب”، المشابه لما يتم التحضير له اليوم، على التضخم وارتفاع الأسعار”، يقول الباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة البروفسور مارون خاطر. “نستنتج من إقرار السلسلة الشعبويّ والمتسرّع أمرَين اثنين: الأول، غياب الإحصاءات الدقيقة لعديد ومهمّات موظفي القطاع العام. والثاني، زيادة الرواتب من دون دراسة فعلية لجهة الكلفة ومصادر التمويل بالمقارنة مع إيرادات الدولة ومداخيلها”.
يضيف البروفسور خاطر، اليوم وبعد نحو 4 أعوام على الواقعة المرَّة يجري استنساخ الخطأ القاتل نفسه وإن لفترة محددة بنهاية السَّنة. عمليّاً، يَعمد المسؤولون أنفسهم، وإن تغيَّرت بعض اسمائهم، إلى رفع الرواتب مرتكزين على تمويلها عبر طبع الاموال أو عبر رمي كرة نار زيادة الضرائب على أي حكومة موعودة. أما المطلوب فهو “تمويلها من خلال رفع الانتاجية”. في هذا السياق يشدد خاطر على أنَّ “كل ما عدا ذلك من طروحات، كالتي نشهدها مؤخراً، هي مغامرة مالية ستوصل البلد إلى الانتحار. فالاقتصاد يسجِّل نمواً سالباً، والناتج المحلي الإجمالي سجل انخفاضاً دراماتيكياً من نحو 55 مليار دولار إلى أقل من 15 ملياراً. أما انتاجية القطاع العام وأداؤه فتحكمهما العشوائيَّة وغياب قواعد البيانات المُحَدَّثة والدراسات العلميَّة الدقيقة. إلا أنَّ ما يمكن تلمُّسه من هذا القطاع فهو أنه يعاني من تخمة وفجوات تنظيميَّة مزمنة وأنه بمعظمه، مع استثناء مؤسسة الجيش وبعض المؤسسات الأمنيَّة، غير منتج وموظفوه ذاهبون باتجاه عصيان مدني غير معلن. وعليه فان أي زيادة في الرواتب لن تؤثر إيجاباً على الإنتاجية، وستُعتَبر غير كافية مهما بلغت. من ناحية ثانية ستؤدي الزيادة الموعودة الى خلق تمييز داخل القطاع العام نفسه، وبينه وبين القطاع الخاص، الذي لم يحصل بأغلبيَّته على الزيادات المُقرة منذ سنوات.
التضخم المفرط
في سياق مُتَّصل، يَرَى البروفسور خاطر أنَّ “أي زيادة للأجور في ظلّ نمو سلبي للإقتصاد ستتآكل قبل إمكانية الاستفادة منها لتحسين القدرة الشرائية وجودة الحياة. كما أنَّها قد تدفع باتجاه التضخُّم المُفرَط لتَرافُقِها مع نُدرة شديدة في عرض السلع. عندها لن يبقى التضخم مقتصراً على ارتفاع الأسعار فقط بل يصبح على شكل تبدُّلات يومية في أسعار السلع والمنتجات والخدمات، وتحديداً تلك الضرورية المفقودة من الأسواق. وستخلق مضاربة عبر هذه الأموال في السوق السوداء وقد تؤدي إلى ارتفاع سعر الدولار”.خلفية القرار سياسية
إذا كانت معرفة المسؤولين المرتبطة بمخاطر زيادة مداخيل القطاع العام في ظلّ الانكماش وتراجع الإيرادات من البديهيات، فلماذا الاستمرار بطرحها واللعب على وتر الأمل بتحسن أوضاع الموظفين خصوصاً والمواطنين عموماً؟!
يجيب البروفسور خاطر أنَّ “مثل هذه القرارات لا تؤخذ بخلفيات إقتصادية، إنما سياسيَّة وإنتخابيَّة وشعبويّة وقد يكون الهدف منها امتصاص النقمة الشعبيَّة من ضمن التوجه المعروف الذي يميِّز هذه المرحلة. فأشباه الحلول هذه تَسمَح بشراء المزيد من الوقت وتؤجل الارتطام والانهيار الشامل. ولهذا لن توفر السلطة أي وسيلة لتحقيق المبتغى على الرغم من معرفتها السابقة بالنتائج الخطيرة. وهي قد تلجأ إلى زيادة طباعة الليرة ووضع اليد على الاحتياطي الإلزامي بتشريعات غير دستورية. وقد تفاجئنا أيضاً بطرق أخرى للاستيلاء على ما تبقى من ودائع في المقبل من الأيام”.رفع سقف السحوبات أيضاً تضخمي
بالإضافة إلى ما تقدَّم على الصعيد المالي، تقترح لجنة المال والموازنة على الصعيد النقدي رفع سقف سحوبات الدولار في المصارف من 3900 ليرة إلى 10 آلاف ليرة. الحجة التي اعتمد عليها الطرح منطقية وهي ارتفاع سعر الصرف في السوق الموازية إلى 20 ألفاً.
وبالتالي فان مثل هذا الإجراء يدعم برأي واضعيه القدرة الشرائية. في هذا السياق يرى البروفسور خاطر أنَّ “هذا الإقتراح يعني زيادة الكتلة النقدية M1 (سيولة بالليرة + ودائع بالليرة تحت الطلب)، وذلك بغض النظر عن كمية السحوبات التي سيسمح بها، ومن دون الأخذ بالاعتبار وضعها في التداول بشكل كليّ او جزئيّ. فكلّ زيادة في هذه الكتلة ستؤثر حكماً على التضخم وتغذية السوق الموازية والوصول بنا إلى حدود التضخم المفرط.
إلا أنَّ ما قد يخفف من وطأة هذا الإجراء هو منع من يستفيدون من التعميم 158 من الاستفادة من التعميم 151. وعمَّا اذا كان تخفيض سقف السحوبات قد يحدّ من الآثار السلبية لزيادة الكتلة النقدية ويكون من الجهة الأخرى قد خفض الهيركات إلى 50 في المئة؟ يعتبر البروفسور خاطر أن “الأمر سيان بالنسبة للمودع الذي سيحصل في نهاية الشهر على نفس المبلغ الذي كان يحصل عليه عند سقف السحوبات على 3900 ليرة. هذا الإجراء لا يخفِّض الهيركات إلى 50 في المئة كما يعتقد الكثيرون لان المبالغ ستبقى محجوزة في المصارف فيتولّى الوقت الحسم من قيمتها”. بالنظر إلى ما يحصل يظهر أننا أمام واحدة من مصيبتين: إما “فقاعة” مالية ونقدية جديدة لن تلبث أن تنفجر في وجه الجميع بعد أن تكون قد امتصت غضب الموظفين والمواطنين باجراءات ترقيعية موقتة، وإما “ملهاة” جديدة تبقي الجميع منتظراً الأحسن على قاعدة “على الوعد يا كمون”.