— الأخبار— حمزة الخنسا
على رغم الأسئلة الكثيرة التي أحاطت قمّة بغداد والدوافع التي حدَت بالمسؤولين العراقيين إلى عقْدها لـ«لمّ شمل» دول الإقليم تحت مظلّة حكومة مصطفى الكاظمي، بدا جليّاً أن الدول المشاركة في المؤتمر الذي لم تُدعَ إليه سوريا، لم تكن على مسافة واحدة من نوايا العراق، وتطلُّعه إلى لعب دور «مُتخيَّل» في منطقة يقول إن صراعاتها انعكست سلباً على استقراره. ولعلّ أكثر ما بدا لافتاً في القمة، توثُّب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لعب دور يفوق حجم بلاده وحضورها الذي يسعى لترسيخه في بغداد، ظنّاً منه أن عمليات «مكافحة الإرهاب» يمكن أن تتواصل إلى الأبد
انتهت «قمّة بغداد للتعاون والشراكة»، لكن مفاعيلها «الرمزية» مرجّحة لأن تستمرّ طويلاً، خصوصاً أنها تتّصل بشكل النظام السياسي في العراق ودوره المستقبلي. القمّة التي عُقدت في ظرف زماني ومكاني غير اعتيادي، أرادتها بغداد باباً يفتح على مسارات مختلفة من العلاقات بين دول جوار العراق، التي يَعتقد العراقيون أن تناقضاتها وصراعاتها انعكست سلباً على الاستقرار الأمني والسياسي في بلدهم، وأن تعاون هذه الدول وشراكتها في حلّ الأزمات، سينعكس إيجاباً على العراق. غير أن الدول المشاركة في القمّة، لم تكن كلّها على مسافة واحدة من «نوايا» بغداد. فإذا كان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان نَجْم القمّة بخطابه ومخالفته لبروتوكول اللقطة التذكارية، بدا أن للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون برنامجه الخاص في العراق الذي افتتحه، أوّل من أمس، مشاركاً في القمّة، واختتمه، يوم أمس، جائلاً بين كردستان والموصل شمال البلاد. وبهذا، يسعى ماكرون إلى أن يُثبت أن فرنسا لا تزال تحتفظ بدور ما في المنطقة، فضلاً عن محاولته تعزيز موقعه على الساحة الدولية. في هذا السياق تحديداً، يُفهم تطرُّقه إلى أن بلاده «ستُبقي على حضور لها في العراق لمكافحة الإرهاب، طالما أراد العراق ذلك، مهما كان خيار الأميركيين».
أتى موقف الرئيس الفرنسي فيما «المهمة القتالية» للولايات المتحدة التي تحتفظ بنحو 2500 عسكري في العراق، وفق الأرقام الرسمية المعلَن عنها، تنتهي بحلول نهاية العام الجاري، حين تتحوّل مهمّة الجنود الأميركيين في بلاد الرافدين إلى «استشارية». وفي هذا الإطار، يقول مصدر سياسي واكب أعمال القمّة في بغداد لـ«الأخبار» إن تصريح ماكرون حول نيّة بلاده الإبقاء على حضور لها في إطار «مكافحة الإرهاب» يأتي «من خارج روحية قمّة التعاون والشراكة، على عكس ما حاول ماكرون إظهاره بقوله إن ذلك منوط بموافقة العراقيين». ويضيف المصدر أنه «على رغم أن العراق لا يزال يواجه العديد من التحدّيات الأمنية، إلّا أن جمْع المتخاصمين في الإقليم وجهاً لوجه على طاولة واحدة في بغداد، يعكس نيّة الأخيرة وتوجّهها الأكيد نحو فتح مسار للعمل المشترك في المحيط الإقليمي عبر الحوار، بعيداً من الصراعات التي أضرّت العراق كثيراً»، مؤكداً أن «سيادة العراق منطلق أساسي لعودة البلاد إلى دورها الريادي على الساحة العربية والإقليمية والدولية». ويربط المصدر بين سحب واشنطن جنودها من العراق، وتوثُّب باريس للعب الدور الأميركي على الأرض، بالقول إن «فرنسا، وبطرحها هذا، إنّما تلعب دور الوكيل بعد انسحاب الأصيل»، إذ يرى في الأمر «استمراراً لانتهاك سيادة العراق. فبعد قمّة بغداد، من المرجّح أن لا يكون في العراق، بين القوى السياسية، مَن يرحّب ببقاء قوات أجنبية في البلاد، مهما اختلف وتعدّد مبرّر وجودها»، معتبراً أن العسكريين الفرنسيين – وعددهم 600 في إطار «التحالف الدولي» – «غير مؤهّلين كمّاً وتسليحاً للعب دور فارق إذا ما واجهت البلاد أيّ مخاطر على غرار ما حصل عام 2014».
كما في لبنان كذلك في العراق يبدو الرئيس الفرنسي خبيراً في استثمار اللحظات الحاسمة. هذه المرّة، تأتي زيارته الثانية إلى بغداد قبل ثمانية أشهر من الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي لم يُعلِن بعد ترشّحه رسمياً إليها. لكن الارتياح العام كان من أبرز ما وحّد العراقيين بعد قمّة بغداد، على رغم التباين الحاصل حول عدم دعوة سوريا إلى المؤتمر، والملامة التي وجّهها البعض إلى رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي قبل أقلّ من شهرين من الانتخابات البرلمانية المقرّرة في تشرين الأول المقبل والتي أعلن عدم المنافسة فيها.
كما في لبنان كذلك في العراق يبدو الرئيس الفرنسي خبيراً في استثمار اللحظات الحاسمة
وفي هذا الصدد، تقول مصادر عراقية مقرّبة من حكومة الكاظمي لـ«الأخبار» إن «رغبة العراق في دعوة سوريا إلى المؤتمر كانت أكيدة، إلّا أن الدول المشاركة فيه لم تكن كلها مستعدّة للجلوس مع دمشق على طاولة واحدة». وتشير المصادر إلى أنه «إذا كان من بين الحضور مَن يُعتبرون من ألدّ خصوم إيران، فإن من بينهم أيضاً مَن يتبادلون نظرة العداء المشتركة مع سوريا، وبالتالي فإنه من الحكمة استثناء دمشق من الدعوة مع الاحتفاظ بكامل العلاقات المميّزة بينها وبين بغداد»، لافتة إلى أن «دمشق تتفهّم دوافع بغداد ومبرّراتها، وهذا ما يدفع أيّ سلبية سورية تجاه العراق في المستقبل».
يجسّد مؤتمر بغداد «رؤية العراق في شأن تغليب لغة الحوار»، بحسب رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الذي قال أيضاً، في كلمته الافتتاحية أمام المؤتمر، إن دور العراق التاريخي «يكمن في أن يكون أحد ركائز الاستقرار في المنطقة»، مؤكداً أن «لا عودة للعراق إلى العلاقات المتوتّرة والحرب العبثية مع الجيران والأصدقاء». عناوين كبيرة رفعها الكاظمي تدخل ضمن «نوايا» بغداد أو رؤيتها للمؤتمر، إلّا أن ذلك يفتح الباب على تساؤلات كثيرة من النوع الذي يركّز على محاولة فهم دور العراق ووزنه السياسي في المنطقة والإقليم. فهل باستطاعة عراق اليوم أن يكون مركز توازن واستقرار للمنطقة؟
مراقبة مسار الملفّات الكبيرة العالقة بين دول المنطقة، كما بين إيران والسعودية أو قطر وتركيا، يمكن أن تعطي إجابات أوّلية حول قدرة العراق أو هامش التحرّك المرسوم له، إنْ في محيطه أو أبعد. وتقول المصادر العراقية المقرّبة من الكاظمي إن «بدء تلمّس نتائج المؤتمر التي تمكّن من الحكم عليه، مؤجّلة إلى ما بعد الانتخابات التشريعية المقبلة، بحيث ستتشكّل تحالفات وتفاهمات تُنتج حكومة لإدارة البلاد»، معتبرة أنه «كل ما كانت هذه الحكومة قوية وتمتلك هامشاً أوسع من استقلالية القرار، كان بمقدورنا البدء بالحديث عن أن ما بعد قمّة بغداد ليس كما قبلها».