النصوص التي ينشرها المجلس الروسي للعلاقات الخارجية تحمل طابعاً معرفياً إستشارياً بالنسبة لمؤسسات إتخاذ القرارات. وكان من شبه المستحيل أن يمر الحدث الأفغاني، الذي أقام العالم ولم يقعده بعد، من دون أن يقول هذا المجلس كلمته. ولم تترك هذه الكلمة لخبير أو كاتب سياسي أو سفير سابق عضو في المجلس، بل قرر مديره أندريه كارتونوف تولي هذا الأمر، وقام بعقد مقارنة بين هزيمة أميركا الأفغانية وما يسميه نصر روسيا السوري. فقد نشر في 24 من الشهر الجاري نصاً بعنوان “دروس تدخلين عسكريين. لماذا نجحت روسيا في سوريا وفشلت الولايات المتحدة في أفغانستان”.
يقول كارتونوف بأن المقارنة صعبة بين الحملتين، حيث أنهما مختلفتان جداً من حيث الحجم والمهمات وخصائص العمليات العسكرية. فمقارنة بالأعداد الضخمة من القوات الأميركية والحليفة التي شاركت في العملية الأفغانية، اقتصرت العملية الروسية في سوريا على مشاركة الطيران الحربي ووحدات قليلة العدد من الشرطة العسكرية. وفي ما يتعلق بالخسائر البشرية، تكبد التحالف الدولي في أفغانستان أكثر من 3 آلاف قتيل 80% منهم من الأميركيين، في حين أن الخسائر الروسية هي “أقل بمرات”، من دون أن يذكر أي أعداد. وإذا كانت الحملة الأميركية قد قدرت تكاليفها خلال 20 سنة بين 1و2 تريليون دولار، فقد تراوحت كلفة الحملة الروسية خلال 6 سنوات ما بين 10 و 15 مليار دولار، وفق التقديرات المختلفة، وهو ما يقل ليس عن تكاليف الولايات المتحدة فحسب، بل وعن تكاليف الكثيرين من صغار شركائها.
لكن التكاليف الهائلة لم تساعد الأميركيين. فعلى الرغم من تدمير معاقل القاعدة وفرار من بقي على قيد الحياة من طالبان إلى باكستان في الأشهر الأولى للعملية العسكرية، إلا أن المهمات التي وضعتها القيادة الأميركية للحملة منذ 20 عاماً لم تتحقق، وجاء إنسحاب التحالف الدولي سريعاً وليس عملية إجلاء مدروسة جيداً.
يجزم كارتونزف بأن روسيا، وباعتراف ألد أعداء موسكو، قد أحرزت النصر في سوريا. لكنه يستدرك فوراً ويخفض من لهجته الجازمة بالقول “على أي حال، هي بالتأكيد منتصرة في الوقت الراهن”. ويذكّر بأنه لم يكن لدى روسيا أية أفضليات عسكرية تقنية أو جغرافية بالمقارنة مع الولايات المتحدة، بل على العكس.
يرى الرجل في العمليتين الأميركية والروسية نموذجين للعمل العسكري، ويوجز في أربعة أسباب الفشل الأميركي والنجاح الروسي، ويأتي في طليعتها الإختلاف في الأهداف. فعلى الرغم من إعلان الدولتين أنهما تحاربان الإرهاب العالمي، إلا أن أهداف العمليتين كانت مختلفة جداً. فموسكو أتت إلى سوريا العام 2015 لإنقاذ الدولة السورية ممثلة بالرئيس بشار الأسد ومحيطه المقرب إليه، اي أنها جاءت للمحافظة على الوضع السياسي القائم في سوريا.
أما الولايات المتحدة فقد جاءت إلى أفغانستان العام 2001 لتغيير الوضع القائم راديكالياً، وإقامة نظام سياسي جديد، تحقيقاً لمخطط طموح في بناء دولة عصرية مدنية في بلد يفتقد الشروط الموضوعية لبناء ناجح للدولة.
ثاني هذه الأسباب يراه كارتونوف في الإختلاف بين التحالف من أجل القيم كما في حال التحالف الغربي الأميركي في أفغانستان، والتحالف من أجل المصالح كما في حال روسيا وتركيا وإيران في سوريا. ويستنتج الرجل أن التضامن المبني على القيم، وليس على المصالح، ليس أساساً موثوقاً جداً للقيام بعملية عسكرية طويلة الأمد.
السبب الثالث يراه الرجل في الإختلاف في طبيعة العلاقة التي تربط حركة طالبان بأفغانستان، وتربط المجموعات الإرهابية بسوريا. فقد واجهت روسيا في سوريا مجموعات إرهابية دولية بشكل اساسي، تنظر إلى سوريا كواحد من مواطئ القدم الممكنة من أجل التخطيط لعملياتها وتنفيذها. فإذا كانت تقاتل اليوم في سوريا، يمكنها غداً الإنتقال إلى العراق أو ليبيا أو أي نقطة في العالم ينشأ فيها وضع ملائم لها.
أما طالبان فهي حركة أفغانية كلياً، لا مكان آخر يذهب إليه مقاتلوها الذين عملوا بكل قواهم للعودة إلى أفغانستان، حين اضطروا للفرار إلى باكستان في بداية الحملة الأميركية. فالحافز للقتال لدى الإسلاميين “الدوليين” ولدى الإسلاميين “القوميين” مختلف، فإذا كان لدى “الدوليين” أرجل، فلدى “القوميين” جذور.
السبب الرابع يراه مدير المجلس الروسي في حسن إعداد العملية الروسية في سوريا على نحو “أفضل بكثير” من إعداد العملية الأميركية في أفغانستان. والفضل في ذلك يعود للخبراء الروس المستعربين والدبلوماسيين والعسكريين وممثلي المخابرات الروسية، الذين كانوا يعرفون جيداً الوضع في سوريا وفي البلدان المحيطة بها.
أما تصور الولايات المتحدة عن أفغانستان فقد تشكل خلال المجابهة مع الإتحاد السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي، وتبين أنه بعيد عن الواقع.
يعتبر المجلس الروسي للعلاقات الدولية إحدى أدوات “القوة الناعمة” لروسيا في العالم، وإُقيم لدراسة وإختبار مشاعر النخب والمجتمع باتجاه إندماج روسيا في الفضاء الأوروبي، كما جاء في تعريف google الناطق بالروسية له. لكن توجه المجلس للإندماج في الفضاء الأوروبي( وهو أمر مشكوك فيه جداً) يجعل من الصعب تقبل كلام مديره عن إنتصار روسي في سوريا، ووقائع الأرض تطيح به يومياً. ولذلك يعود للحديث عن “نقاشات في محلها وليس في محلها”، وعن “تحفظات كبيرة” على النصر الروسي في سوريا وكيف يتجلى على الأرض.
كان كارتونوف قد كتب بمناسبة مرور عشر سنوات على الكارثة السورية في آذار/مارس المنصرم نصاً بعنوان لافت”سوريا: في منتصف دورة طويلة”، تعرض فيه أيضاً إلى مسألة “إنتصار” روسيا في سوريا. قال الرجل في حينه بأن روسيا هي منتصرة من وجهة النظر التكتيكية ، وفي ما يتعلق بتدني كلفة العملية العسكرية على الموازنة الروسية، والتي جعلت موسكو سريعاً اللاعب الخارجي الرئيسي على المسرح السوري. لكنه أشار إلى أنه، وبعد مضي خمس سنوات على مشاركتها في الصراع السوري، ليس لدى موسكو إستراتيجية للخروج من هذا الصراع. كما أشار أيضاً إلى أن مستوى تأثير موسكو على النظام في دمشق يبقى سؤالاً مفتوحاً، فليس من الواضح من يحرك الآخر “الكلب أم الذنب؟”.
وتساءل عن ما ينتظر سوريا خلال السنوات العشر التالية حتى العام 2031، وقال “لنبدأ بما لن يحدث على الأرجح في المستقبل المنظور”. في طليعة ما لن يحدث في مستقبل سوريا المنظور هو إستعادة وحدة الأراضي السورية، لكن هذا لايعني برأيه حذف المسألة من برنامج العمل اليومي. ورأى بأنه، مهما كان عليه تطور الأحداث لاحقاً، لا ينبغي السماح بالتقسيم النهائي لسوريا، وذلك لما له من نتائج سلبية على الدول المجاورة وعلى الشرق الأوسط ككل.
الأمر الثاني الذي لن يحدث في مستقبل سوريا المنظور، يراه كارتونوف في عدم العودة الكاملة للاجئين والنازحين السوريين إلى أماكن سكنهم. فالجزء الأكبر منهم سوف يبقى في أماكن التهجير الحالية في الشرق الأوسط وأوروبا، مما يحول الشتات السوري إلى شبه بالفلسطيني.
كما يرى بأنه لن يكون هناك مخطط لإعادة إعمار سوريا بكلفة تتراوح بين مئة ومئتي مليار دولار، ليس لدى أوروبا والخليج، في ظروف الأزمة الإقتصادية ووباء كورونا، إمكانيات مالية لتغطيتها. ويقول بأن المطر من ذهب لن يتساقط على دمشق، “حتى لو اختفى بشار الأسد عن المسرح السياسي”.
أما الأمر الرابع الذي يبشر به كارتونوف السوريين، فهو بقاء نظام الأسد واستمراره في “إجتراح معجزات الصمود”، رغم المشاكل الإقتصادية المتفاقمة والعقوبات الجديدة والصراع المتواصل على السلطة في دمشق نفسها”.
حيال هذه الإستعصاءات الأربعة، يرى كارتونوف أن مهمتين ملحتين في سوريا الآن: مهمة الحد الأدنى في عدم السماح بتصعيد جديد للصراع، ومهمة الحد الإقصى في تحفيز دمشق للشروع في إصلاحات حذرة، حتى لو كانت محض إقتصادية.