“كابول غايت”: من سيدفع الثمن؟

 

عماد الدين أديب -أساس ميديا-

هل أخفقت الاستخبارات الأميركية في المعلومات، والإعداد، والترتيب الأمني، لعملية الخروج من أفغانستان؟

سؤالٌ سوف يظلّ يلاحق أكبر جهاز استخباري في العالم من ناحية الدور والتاريخ والإمكانات والموازنة المالية، وعدد العملاء ووسائل التجسّس والاختراق.

نحن لا نطرح سؤالاً له علاقة بمسألة خطأ سياسي أو فشل استخباري، لكنّه سؤال كبير يتعلّق بالمسألة التالية: هل سلوك واشنطن في أفغانستان يؤكّد أم ينفي إخفاقها؟ هل الولايات المتحدة لا تزال جديرة بأن يعتبرها العالم الدولة العظمى؟ أو على أقلّ تقدير، هل هي مجرّد دولة عظيمة مثل عدّة دول أخرى؟

أهمية وكالة الاستخبارات الأميركية، أمريكياً، أنّها هي “العقل المعلوماتي” الذي يوفّر المعلومات الدقيقة المفصّلة عن ملفات وأشخاص وصراعات ووقائع تتّصل مباشرة أو غير مباشرة بما يؤثّر على مصالح الولايات المتحدة حول العالم.

من هنا تصبح المعلومة الخاطئة أو التي تمّ تلوينها بغرض أو هوى سياسي هي بالضرورة مقدّمة لقرار سياسي خاطىء.

وعلى الرغم من كلّ إمكانات هذه الوكالة التي تتعامل مع 16 ذراعاً وأداة استخبارية في الداخل، وعلى علاقة تنسيق مع أكثر من ثلثي استخبارات العالم من خلال بروتوكولات تبادل معلومات أمنية، فإنّها كثيراً ما تنجح في التوقّع أو تفوتها معلومة.

أذكر أنّي سألت الشيخ كمال أدهم، رحمه الله، وهو من كبار مؤسّسي جهاز الاستخبارات السعودية الذي شغل منصب رئيسه قبل وأثناء حرب أكتوبر 1973، عن انطباعه عن اللقاء المهمّ الذي تمّ في البيت الأبيض، في منتصف عام 1974، مع الرئيس ريتشارد نيكسون والأمير سعود الفيصل، رحمه الله، وحضره الشيخ كمال، وكان الموضوع آثار حرب أكتوبر وقرار قطع النفط على العلاقات بين واشنطن والرياض.

قال الشيخ كمال: “كان أكثر ما كرّره نيكسون في اللقاء بحزن وأسف هو عدم قدرة جهاز الاستخبارات الأميركية على تقدير قرار الحرب وتوقّع قرار قطع النفط”.

هنا نعود ونسأل: هل حدث إخفاق معلوماتي لدى جهاز الاستخبارات الأميركية كما حدث أخيراً في أفغانستان؟

هذا السؤال طُرِح بالفعل على كبار مسؤولي الـ”سي.آي.إيه” منذ 3 أيام في جلسة مغلقة وسرية تحت قبّة الكونغرس الأميركي.

كان أكثر ما أزعج النواب والشيوخ هو كيف يمكن لأكبر دولة في العالم تسيطر على دولة ضعيفة مثل أفغانستان لمدة 20 عاماً، وأنفقت أكثر من تريليون دولار على وجودها فيها، ولديها قوات احتلال على الأرض، وقوات شرطة عسكرية، وقواعد استخبارات، وأجهزة تجسّس، وأقمار صناعية تتابع، وشبكة عملاء يقال إنّها ما بين 80 إلى 100 ألف أفغاني، ثمّ يأتي خروجها بهذا الشكل الفوضوي المخجل والدموي؟

كانت الجلسة السرية تضم 23 نائباً، منهم 13 ينتمون للحزب الديموقراطي، و13 من الحزب الجمهوري، وأهمّ ما تسرّب عن هذه الجلسة، وهو قليل جدّاً، أنّ اللجنة لم تحصل على إجابات شافية توضح أسباب هذا الفشل الاستخباري في توقّع ما حدث في الأسابيع الأخيرة في أفغانستان.

وأكّد رئيس اللجنة النائب الديموقراطي آدم شيف أنّ هذه الجلسة هي مجرّد بداية، “ولكن يتعيّن علينا أن نعرف بالتفصيل ماذا حدث؟”.

الأمر الذي علمناه أنّ موقف مسؤولي الاستخبارات في هذه الجلسة كان دقيقاً ومحرجاً لأنّهم إن تحمّلوا مسؤولية الفشل فسيصبحون في موقع المحاسبة، وإن أثبتوا أنّهم توقّعوا وحذّروا ممّا حدث أصبح بايدن شخصياً هو المسؤول.

هذا كلّه سوف يخلق مسألة خطرة وفضيحة كبرى ومستمرّة لسنوات يمكن أن نطلق عليها “كابول غايت”.

هنا يجب معرفة الإجابة على السؤال العظيم: هل علمت الوكالة بكلّ ما حدث وقامت بتنبيه وتحذير الإدارة الأميركية؟ أم إخفاق إدارة بايدن يعود إلى الفشل الاستخباري والنقص المعلوماتي لوكالة الاستخبارات؟

باختصار: مَن المسؤول عن كارثة الخروج من أفغانستان؟ إدارة الاستخبارات أم إدارة بايدن؟

ما يتسرّب الآن هو أنّ وكالة الاستخبارات أبلغت إدارة بايدن ووزارة الخارجية واستخبارات البنتاغون يوم 11 تموز الماضي في تقرير رسمي سرّي جدّاً بكلّ الحقائق، وأعلنت عن مخاوفها من دور طالبان ومن سرعة انهيار الجيش والشرطة الحكومية، الأمر الذي قد يجعل سقوط العاصمة وشيكاً إلى حدّ أنّه قد يسبق يوم 31 آب، وهو السقف الزمني المتّفق عليه للانسحاب الكامل.

لو صحّ ذلك، فإنّ مسؤولية الفشل سوف يتحمّلها الثلاثي بايدن – سوليفان – بلينكين، (أنطوني بلينكن هو وزير الخارجية وجايك سوليفان هو مستشار الأمن القومي)، أي الإدارة.

هذا الأمر سوف يؤدّي إلى خمسة مساعٍ مباشرة:

1- فقدان الرئيس بايدن لمعدّل شعبيّته في الحكم (وهي بالفعل انخفضت 8 نقاط منذ انفجار كابول).

2- انقسام داخل أقطاب الحزب الديموقراطي الحاكم، حيث إنّ القضية هي قضية قومية وليست حزبية، وفيها تهديد لمكانة الولايات المتحدة الدولية، وفيها 13 قتيلاً وعشرات الجرحى.

3- سوف تُعطى الفرصة لتيار دونالد ترامب الشعبوي المتشدّد يمينيّاً لابتزاز بايدن وإدارته وحزبه.

4- سوف يؤثّر ذلك سلباً على مرشحي الحزب الديموقراطي في الفوز مقاعد مجلس الشيوخ والنواب.

هذا أميركياً، ولكن الأهمّ بالنسبة إلينا هو معنى ذلك الأمر ودلالاته، وما نستخلصه نحن حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة في العالم العربي والمنطقة؟

أخطر ما يُستخلص من قرار وأسلوب وطريقة التخلّي السياسي والخروج الأميركي من أفغانستان أنّه لا يمكن الثقة مطلقاً بأيّ تعهّد أميركي أو أيّ وعد بالدعم من واشنطن لأيّ حليف لها.

خذلت واشنطن الصديق والحليف والمتعاون والعميل في أفغانستان، لذلك فإنّ كل صديق أو حليف أو متعاون أو عميل عربي سوف يعيد حساباته مليون مرة، بعد الخروج من كابول، في جدوى أيّ رهان أو ثقة بالأميركيين.

سيطرح هؤلاء سؤالاً منطقياً: إن لم يكن الرهان أو الثقة بالأميركيين، فمَن هو البديل؟

المطروح عالمياً: عملاق صيني صاعد، قوة روسية يديرها ديكتاتور قوي هو بوتين، أو أوروبا الجريحة المريضة.

نظرية الحليف الدولي الذي يمكن الرهان عليه منفرداً هي مسألة في حالة إعادة صياغة وسوف تستغرق وقتاً للتشكّل.

أهم المتغيّرات بعد سقوط كابول بهذا الشكل المخجل هو شعور حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة بالخيانة!

الناجون من لعبة الارتهان لحليف دولي واحد سوف يصلوا في النهاية إلى 3 حقائق:

1- يكون الرهان أوّلاً على القوة الذاتية قبل الاعتمادية الكاملة على الغير.

2- إنّ الولايات المتحدة سوف تظلّ قوة عظيمة، لكنّها لن تكون القوة العظمى، أي رئيس مجلس إدارة العالم.

3- إنّ الحكمة تقتضي التعامل والتعاون مع الجميع، وعدم الارتهان لقوة واحدة كائناً من كانت.

النتيجة النهائية للفشل الأميركي في أفغانستان هي إعادة الروح لأنصار الإسلام السياسي والإرهاب التكفيري، وقتل الثقة لدى أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة المعتدلين في المنطقة.

ستعود داعش، والقاعدة، والحشد الشعبي، وحزب الله اللبناني، والحوثيون، والإخوان، وبوكو حرام، وكلّ من على شاكلتهم، إلى الحركة بعدما مالت نتيجة معركة طالبان مع واشنطن لمصلحة الميليشيا (200 ألف مقاتل بدائي بأسلحة خفيفة ومتوسطة) مقابل أقوى ترسانة مسلّحة لأهمّ دولة في العالم.

وسيعيد حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط حساباتهم في مدى صدقيّة واشنطن في الدفاع عنهم أو حماية مصالحهم، بعدما علم الجميع أنّ التعليمات جاءت للدبلوماسيين من واشنطن بموعد الانسحاب النهائي مع تحذيرٍ بعدم إبلاغ المتعاونين والعملاء.

يتمثّل درس أفغانستان في أنّ الأميركيين:

1 – لا ثقة بصدقهم.

2- ثقة بكفاءتهم.

3 – ثقة بمعلوماتهم.

هذا كلّه لا يجعل منهم دولة عظيمة، وبالتأكيد لا يجعل منهم الدولة العظمى.

أذكر أنّني سألت الجنرال العظيم عمر سليمان (مدير المخابرات العامة المصرية)، رحمه الله، أحد أهم رؤساء الاستخبارات في الشرق الأوسط، عقب عودته من زيارة عمل لواشنطن، عن رحلته.

كان الجنرال وقتها يتمتّع بعلاقة تعاون قوية مع نظيره الأميركي جورج تينيت.

قال اللواء سليمان: الحمد لله كانت جيدة.

عدت وسألته: “هل يمكن أن نثق بالـ”سي.آي.إيه”؟”.

صمت الجنرال، ثمّ ابتسم وقال متجاهلاً سؤالي: “هل أطلب لك قهوة جديدة؟”.

عدت أسأل السؤال مرّة أخرى وبإلحاح، فجاء الردّ: “الاستخبارات الأميركية لاعب أساسي في ما يُعرف بالمجتمع الاستخباري العالمي، وهي شرّ لا بدّ منه”.

ثمّ قال: “أمن الأوطان لا يأتي من جهاز أمني أجنبي، لكنّه يأتي فقط من جهازك الوطني”.

Exit mobile version