د. ميخائيل ميلشتاين –
باحث في معهد السياسة والاستراتيجيا في مركز هرتسليا
تواجه إسرائيل تناقضاً حاداً وارتباكاً عميقاً حيال الواقع الحالي في قطاع غزة. في الأسبوع الماضي برز انطباع وسط كثيرين في إسرائيل بحدوث انعطافة في اتجاه تسوية في المنطقة، لكن سرعان ما حلت محل هذا الانطباع اشتباكات عنيفة بادرت إليها “حماس”، في مقدمها تجدُّد إطلاق البالونات الحارقة وأعمال الشغب في منطقة السياج الحدودي. هذا التناقض ناجم عن فجوة عميقة بين نظرة إسرائيل وبين نظرة “حماس” إلى الواقع، بالإضافة إلى استمرار الصعوبة التي تواجهها إسرائيل في فك ألغاز عالم ونوايا مسؤولي “حماس” الرفيعي المستوى.
منذ انتهاء عملية “حارس الأسوار” يعمل يحيى السنوار من أجل تحقيق هدف مركزي: إعادة الواقع الاستراتيجي في القطاع إلى ما كان عليه قبل 10 أيار/مايو عندما أطلقت “حماس” صلية صواريخها في اتجاه القدس، معلنةً بدء المعركة العسكرية. يومها انتهكت “حماس” قواعد التسوية التي كانت قائمة في قطاع غزة حتى ذلك الوقت، وكانت قلقة من إلغاء إسرائيل جزءاً من الخطوات المدنية التي سبقت العملية، وبدت معنية بالعودة إلى “التسوية القديمة”؛ بكلام آخر، هي تريد أن تثبت أنها نجحت في تغيير قواعد اللعبة في مواجهة إسرائيل من دون أن تدفع ثمناً باهظاً يهدد استقرار حكمها.
يبدو أن السنوار يعمل انطلاقاً من منطق مفاده أن في الإمكان العودة إلى “التسوية القديمة” من دون الانجرار إلى معركة واسعة النطاق لا ترغب فيها “حماس” في هذه المرحلة. السنوار ليس راضياً عن الخطوات المدنية التي طبقتها إسرائيل حتى الآن، وعلى رأسها عدم تحويل المساعدة القطرية كاملة إلى قطاع غزة، وتوسيع حجم الواردات والصادرات منها، والسماح بمرور البضائع الغزية إلى إسرائيل (هذه الخطوات تساعد في ترسيخ استقرار حكم “حماس” والمحافظة على نفوذ قطر في قطاع غزة). تجدُّد الاحتكاكات في منطقة الحدود وإطلاق البالونات الحارقة يشكلان وسائل ضغط ناجعة في نظر السنوار الذي يعتبر أن ما يجري هو نوع من “معركة بين الحروب” لن تصل بالضرورة إلى مواجهة واسعة.
من المحتمل أن تعكس خطوات “حماس” إدراكاً مفاده أن إسرائيل مشغولة حالياً بمشكلات أُخرى على رأسها الكورونا، والعقدة السياسية الداخلية، والتوترات في جبهة الشمال وفي مواجهة إيران، الأمر الذي يجعل من الصعب عليها تخصيص الانتباه والجهد للمواجهة في قطاع غزة، وبالتالي دفعها إلى العودة إلى “التسوية القديمة” في المنطقة. من المحتمل أن الطمس المستمر للخطوط الحمراء التي وضعتها إسرائيل عند الانتهاء من عملية “حارس الأسوار” يعزز التقدير أن إسرائيل سبق لها في الأشهر الأخيرة أن دفعت قدماً ببادرات مدنية مهمة حيال قطاع غزة على الرغم من عدم حدوث انعطافة في موضوع الأسرى والمفقودين، وأنها لا ترد بصرامة على كل خرق أمني (البالون الحارق مثل الصاروخ).
سلوك السنوار ليس سلوكاً غير عقلاني وليس دليلاً على روحية مسيانية، أو على “انقطاع العلاقة بالواقع”، بحسب تقديرات يُزعم أنها تعود إلى جهات أمنية إسرائيلية. يعمل السنوار في ضوء اعتبارات ذكية وبواسطة أسلوب “التجربة والخطأ”، وهو مستعد لدفع ثمن معين مقابل الدفع قدماً بالأهداف الأيديولوجية الأساسية بالنسبة إليه. وبعد الخطوة الجريئة التي أقدم عليها في عملية “حارس الأسوار”، إذ بادرت “حماس” إلى بدء معركة ضد إسرائيل لأول مرة في تاريخها، وذلك بسبب حوادث في القدس، ومن دون احتكاك سابق في قطاع غزة، نراه يواصل فحص احتمالات تغيير قواعد اللعبة في مواجهة إسرائيل.
تواجه إسرائيل اليوم معضلة استراتيجية صعبة في قطاع غزة. فإذا أرادت أن ترسخ هدوءاً مثل الذي كان موجوداً قبل عملية “حارس الأسوار”، يتعين عليها أن تقبل شروط السنوار والعودة إلى مسار “التسوية القديمة”، ومعناها الموافقة على تحويل كل المساعدة القطرية وزيادة كبيرة في أذونات التنقل والتجارة من القطاع وإليه. كل ذلك من دون إحراز تقدُّم في المفاوضات في موضوع الأسرى والمفقودين الذي كان شرطاً أساسياً بعد عملية “حارس الأسوار”، للدفع قدماً بخطوات مدنية واسعة النطاق.
إن مغزى العودة إلى “التسوية القديمة” هو المسّ بقوة الردع الإسرائيلية. في هذا الإطار تتعزز إمكانية تبنّي قيادة “حماس” تقديراً مفاده أن في الإمكان العودة إلى القيام بخطوات استفزازية في المستقبل، سواء كان جرّاء تطورات خارج قطاع غزة، مثلاً في القدس، أو في الضفة الغربية، أو في المجتمع العربي داخل إسرائيل، من دون أن تدفع الحركة ثمناً باهظاً.
الخيار الثاني أمام إسرائيل هو معركة إضافية واسعة النطاق يمكن بواسطتها إعادة صوغ قواعد اللعبة مع “حماس”. إذا وصلت إسرائيل إلى خلاصة أن هذه الخطوة ضرورية، فمن الأفضل أن تشمل هذه المعركة جواباً على ثلاث فجوات استراتيجية برزت خلال عملية “حارس الأسوار”: أخذ زمام المبادرة الهجومية؛ توجيه ضربة قاسية إلى قيادة “حماس”؛ وصيغة صارمة لشروط التسوية في اليوم التالي من دون انسحابات ومرونة كما جرى في الأشهر الأخيرة، والإصرار على أن شروط الدفع قدماً بخطوات مدنية مهمة هي تقديم تنازلات في موضوع الأسرى والمفقودين.
بين هذين البديلين المتناقضين لا يوجد بدائل وسطية قابلة للتطبيق. استمرار الوضع الحالي معناه استمرار الاحتكاكات ولو بقوة مختلفة يمكن أن تفاجئنا “حماس” خلالها وتبادر إلى معركة ضد إسرائيل. ثمة احتمال ضئيل لأن تقرر “حماس” إبداء مرونة في مواقفها – في الأساس منع الاحتكاكات العنيفة وقبول الواقع المدني القائم والاستجابة إلى الضغط المصري والقطري عليها. صحيح أن مصر أغلقت معبر رفح كخطوة عقابية على سلوك “حماس”، لكن ليس من الواضح الآن ما إذا كانت ستنجح في إجبار “حماس” على منع الاحتكاكات العنيفة بصورة كاملة ودائمة في القطاع.
الواقع المعقد في قطاع غزة يثبت مرة أُخرى أن عملية “حارس الأسوار” لم تنتهِ فعلاً، بل بقيت كقصة مفتوحة ولم تغير أساس قواعد اللعبة بين إسرائيل و”حماس”. بناء على ذلك يتعين على إسرائيل الاستعداد لمواجهة معركة إضافية، ومن المحتمل في الأمد قريب. إذا أحسنت إسرائيل قراءة نوايا “حماس” وامتنعت من إسقاط منطقها على خصمها وأخذت مبادرة هجومية بدلاً من الانجرار إلى تبادُل ضربات مرهقة، فإن هذا سيعزز فرص بلورة “تسوية جديدة” عند انتهاء المعركة المقبلة.