من الواضح، وبناءً على ما يجري تداوله، أن تأليف الحكومة سيطول. المسألة غير مرتبطة بنزاع عميق حول الحِصص و “الأثلاث” والحقائب وربما الأسماء إنما في “التوازنات” داخل الحكومة، أي التوازنات المكرّسة بفعل القوة السياسية والحضور الشعبي، وحيث يعمل البعض، ومنهم “الأميركيين” إلى إخضاعها لورشة “هندسة” تطال طرفين أساسيين هما العهد و”حزب الله”، بنسب متفاوتة طبعاً.
تقريباً، إن العهد غير جاهز إطلاقاً، وفي العام الأخير من ولايته، للتسليم بأنه هُزم. في اعتقاده أنه يرزح تحت حرب قاسية تدوم منذ 5 أعوام أي منذ أن صعد الرئيس ميشال عون إلى قصر بعبدا، وإن تسليمه في العام الأخير بأمر حكومة “تُجهز” على مكتسباته السياسية يُعدّ انصياعاً وإقراراً بالهزيمة من قبله، وعليه فإنه ليس في وارد التسليم.
منذ الآن وحتى انقضاء أجل هذه المعركة، سيكون تأليف الحكومة عنواناً للإشتباك الحالي، وهنا، لا يُعدّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي طرفاً في النزاع إنما متضرّراً منه. وفي مكان آخر يُستفاد من هذه الحالة في التعمية على نِزاعات أخرى كالصراع على الأسبقية في الحصول على “امتياز الطاقة” المخوّل لها أن تزيد التعقيدات على المشهد اللبناني.
في مسألة الطاقة الأمر أوسع من الحصول على امتياز فقط. تغدو المسألة تجاريةً أكثر وذات وجه إنتخابي. من يحصل على امتياز مدّ لبنان بالمحروقات له حظوة واسعة في الإنتخابات النيابية المقبلة، أقلّه في المنظور الأميركي، ومن يُثبت أنه “مُخرّب محروقاتي” لن تُورد إبله! لذلك تندفع واشنطن بقوة صوب مزاحمة “حزب الله” عملاً بمبدأ عدم السماح له بتحقيق مكتسبات إضافية.
“حزب الله”، وفي ظل إعلانه عن بدء “إمدادات” الوقود الإيرانية، يكون قد وضعَ قدماً في حقل لطالما نشط فيه الأميركيون وحلفاؤهم من شركات الإحتكار المعروفة، أي أنه لم يكسر “الحصار” إنما “احتكار” القبائل اللبنانية. في المقابل، يعمل الأميركيون على القوطبة، ولعلها المرّة الأولى التي ينجرّ فيها “اليانكي” إلى وضعية الدفاع لا الهجوم. هذا يقود حكماً إلى معركة مفتوحة عنوانها “الوقود الإيراني” و “الكهرباء الأميركية”.
إذاً الفريقان اختارا لنفسهما وضعيات قتالية. بخلاف ما كان سائداً قبل أعوام حيث كان الحزب ملماًّ أكثر بموضوع الكهرباء، أعاد وبحكم “ضرورات” المعركة الداخلية “ترشيد” خطواته وإجراء تعديلات على المسار، ليصبح مهتماً أكثر بصبّ “المواد الحيوية” من مازوت وبنزين في الشرايين اللبنانية. عملياً، الحزب أطلق مسار “إمداد” لبنان من المحروقات الإيرانية. بالأمس سفينة وقبله سفينة، ويُحكى أن اسطولاً كاملاً بات جاهزاً للإبحار وحمولته لن تقتصر على المازوت والبنزين، إنما الغاز مُدرج على قائمة الأهداف. إذاً هو قرارٌ متخذ منذ فترة وقد أُخضعَ لدرسٍ مستفيض وجرت مُحاكات للإيجابيات والسلبيات والمخاطر وطرق الرد عليها، ولمزيدٍ من التأمين، أدرجَ المسار على ضمانة السيّد حسن نصرالله الردعيّة.
يتحدث “حزب الله” جهاراً عن وجود حصار يرزح تحته الشعب اللبناني، وأنه لن يجلس ليتفرّج طالما أن الأمر يقصده ويطاله ويُراد “إحراقه” به، وطالما أن الآخرين يُريدون “معاكسته” في حقله، فإنه سيلعب معهم على المكشوف، و بأسلحتهم. المتذبذون أو الأصح “فرقة الردح” ذات الرؤوس المستطيلة عند الضفة الاخرى تنفي هذه الفرضية قطعاً، متذرعةً بتفاصيل كعدم توقّف إمدادات الدولار الطازج من الخارج واستئناف مسار الإستيراد الغذائي. هذا يفرض حكماً معادلة أساسية تحول دون استهداف بواخر المحروقات القادمة من الخليج الفارسي، وفيما لو حدث ذلك سيتأكد حكماً أن ثمة حصار أميركي محكم على لبنان، ويُفترض معه أن تخسر واشنطن الكثير حين تنكشف، وإذا عبرت السفن بأمان، فعلى الأكيد أنها لن تكون مسرورة.
في الواقع، أرادت واشنطن وفي أعقاب “إعلان السيّد” عن تحرّك السفن الإيرانية تجاه لبنان مزاحمته بكاره. اختارت أحد ملفات الطاقة التي كان الحزب يعمل على إنضاج ظروفها سابقاً من أجل الكسب من ورائها شعبياً –أي الكهرباء- وتقريباً يعني ذلك محاولةً للقوطبة على مشروع مقبل موضوع على جدول اهتمامات الحزب. لا يهمّ، أساساً أعلن نصرالله بأنه لا يُمانع أية مساعدة أميركية طالما أنها تعدّ مصدر إفادة للناس.
أساساً، المشكلة التي وقعت فيها واشنطن، أو عملياً أوقعت السفيرة الأميركية دوروثي شيا، بلادها بها، سببها أنها كثيرة الإستماع لفرقة الزجل التي تُجالسها في المسائيات وتتسامر معها أطراف الحديث. فحين كان يصدح صوت “حزب الله” مدوياً بأنه على استعداد لجلب النفط الإيراني، كان هؤلاء يكثرون من الإدعاء بأن السيد “بيحكي حكي” ومعظمهم نفى أن يكون الأمر جدياً. ويبدو أن تقارير السفيرة دوروثي شيا لمرجعيتها في بلادها صبّت في هذا الإطار، لتتفاجأ لاحقاً وبلادها، بالوقائع المتجمّعة على الأرض، وأن الحزب حقيقة بدأ مساره دون تراجع!
رتّبت هذه “الصدمة” لجوء السفيرة إلى اعتماد منطق المزاحمة الإعلامية، أي المنطق نفسه المستخدم في الداخل اللبناني وعلى بعض وسائل الإعلام، والذي ما برحنا نرى نماذجاً منه كالإدعاء أن سفينة “المازوت” لم تتحرك من أي ميناء إيراني. أسرعت في طَرح موضوع استجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن، أي أنها كسرت عملياً “قانون قيصر” وأعادت النقاش في أمور رفضته بلادها سلفاً، وفتحت أفقاً أمام الحكومة والسلطة اللبنانية للتسلل من خلف التصريح للإنفتاح على دمشق ومناقشتها بأمور اقتصادية حساسة، فهل أن دوروثي شيا نطقت على هواها أم وفق أمر أميركي؟
على الأرجح فإن الأصحّ هو الشقّ الأول من السؤال. لغايته، لم يثبت أن واشنطن قد أودعت سفارتها في لبنان “إجراءات تطبيقية” أو استثناءات حيال استدراج الغاز أو الكهرباء سواء من الأردن أو مصر (كذلك فعلت دمشق المعنية بالقضية بحكم أنها المعبر الحكمي)، ولكي نكون منصفين، ربما ألمحت إليها بضرورة الإعلان عن الإجراء بشكل متعقل، وهو لم تنتهجه السفيرة. ما سبق وأبلغت السفارة به لا يغدو أكثر من إبلاغ روتيني حيال ما تضمّنه لقاء الملك الاردني عبدالله الثاني بالرئيس الأميركي جو بايدن. حينذاك، طلب الملك الأردني تسهيلات حيال “قيصر”، ووعد الرئيس الأميركي بمناقشة الأمر مع الكونغرس ليس أكثر، وعملياً، إن استرسال السفيرة الأميركية أوقعَ بلادها في حرجِ جديد، ويتردّد في هذا السياق أنها، ومنذ تاريخ ذلك الإعلان، لم تجرِ أي لقاء مع أي “صديق” لبناني، وتردّد على مسامع أكثر من طرف، أن واشنطن ليست مسرورة بما سمعته من سفيرتها!