لم يعد هناك أي أهمية لإحصاء وتوثيق عدد اللقاءات التي جمعت بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلّف تشكيل الحكومة نجيب ميقاتي. ولو لم يتجمّد المسلسل عند انتظار اللقاء الـ 13، لما استحق التوقف عنده. فقد استعيض عنه بإحياء ادوار الموفدين، ليتسنّى لهما استشارة من له أدوار في الخفاء. ولذلك، طُرح السؤال، هل سيكتسب الرقم 13 اهمية خاصة أو يثبت انّه نذير شؤم؟
ثمة من يعتقد انّ في كل ما يجري أموراً طبيعية، فمن استعاد بذاكرته مسلسل تشكيل الحكومات السابقة لعقود خلت، يكتشف انّه كان من النادر ان تُطبخ الحكومة قبل اتفاق الطائف وبعده، بإرادة رئيس الجمهورية من جهة ورئيس الحكومة من جهة أخرى. وعلى رغم ما تحمله بعض الذكريات من وقائع مؤلمة إبّان فترات الوصاية او في محطات اخرى اهتزت فيها مؤسسات الدولة وارتهن مسؤولوها طوعاً او غصباً عنهم في بعض الحالات، لهذا القطب الاقليمي او الدولي او ذاك، فإنّ هناك من يتوقف عند فوارق كبيرة ونماذج عبرت منذ بداية عملية التأليف التي انطلقت قبل عام واربعة اسابيع تقريباً، وتدرّج في هذه العملية ثلاثة اشخاص حتى الآن، من دون ان تتوافر القدرة على توليد الحكومة، الى درجة بات فيها البحث عمّا يعوقها مجرد محاولات فاشلة في ظل انقسام متعدد الجبهات، ولم يعد محصوراً بطرفين. وهو ما يجعل المجال مفتوحاً امام سلسلة من السيناريوهات المتضاربة التي لا تلتقي سوى على تقدير النتائج المترتبة على الفشل او النجاح.
ولذلك، لم يعد من السهل الكشف عن كثير من الحقائق الغامضة، وترك المجال واسعاً امام تقديرات المستشارين والمكلّفين بالتعاطي مع وسائل الإعلام على تعدّد مشاربهم وانتماءاتهم. وهو ما دفع بكثير من المراقبين الى اللجوء الى جسّ نبض، لعلّهم يصلون الى مبتغاهم، ليحكموا بإنصاف على أدوار المتعاطين بملف التشكيل، ولا سيما منهم الوسطاء الذين أتقنوا الجولات المكوكية بين «بيت الوسط» و»البياضة» وقصر بعبدا، كما حصل ابان تكليف الرئيس سعد الحريري، وهم يتجنبون اليوم القيام بأي مهمة مماثلة، ما أفسح المجال امام الموظفين الكبار للقيام بدور ساعي البريد بدلاً من «الدرّاج» الذي تسبب بأزمة بين عون والحريري في احد الايام.
من هذه المنطلقات، تنطلق السيناريوهات التي تحاكي المرحلة المقبلة، من دون القدرة على الحسم في نتائج المهمة التي كُلّف بها ميقاتي، وسط انقسام حاد تشير اليه نظريتان:
– الاولى، تقول انّ العهد قد ساهم بجرأة موصوفة وكاملة وعلناً في خوض التجربة الثالثة لعملية التأليف مع ميقاتي، من دون اي مؤشر الى خواتيمها.
وعليه طُرح اكثر من سؤال: هل بات من المستحيل ان يتفاهم رئيس الجمهورية مع اي رئيس مكلّف من نادي رؤساء الحكومات، بعد تجربتي رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب ومصطفى اديب، اللتين لم تكونا أفضل حالاً؟ وهل انّ المسؤولية تقع على رئيس الجمهورية دون غيره من محيطه والحلفاء؟.
– الثانية، تعتبر انّ أحداً لم يقارب العِقَد المستعصية في التأليف من زواياها الرخوة التي تعطّل الجهود المبذولة الهادفة الى النتيجة المرجوة، من اجل ولادة الحكومة. ومرد ذلك، انّ اياً من الذين كُلّفوا التأليف لم يبادروا الى اي خطوة نافرة إن قيست بالطريقة التي اعتمدها الحريري مع قصر بعبدا، والتي وصفها البعض بـ «الاستعلائية». فخَلَفه حامل شعار «الوسطية « و»مدور الزوايا»، تجنّب منذ اللحظة الأولى اعتماد تفسير دستوري أثار كثيراً من اللغط سابقاً.
ومع اعتراف كثر، بأنّ لميقاتي أسلوباً مختلفاً في مقاربته للمهمة، لكن ذلك ليس مضموناً انّه سيغيّر في قواعد اللعبة الحكومية النهائية. فهو ردّ بعبارات قليلة بعد تكليفه مباشرة «ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، عندما بادر الى ما سُمّي اعترافاً بدور الرئيس ـ الشريك في بعبدا. وما بعد ذلك، فهو يحتفظ بصمت يحوط به طروحاته وبقدرة لم يسبق لغيره ان أبداها بضبط مواقف مجموعة المستشارين المحيطين به، الى درجة التمنّع عن إعطاء اي تفاصيل رغم وجودهم في دارته شهوداً في قلب المفاوضات اليومية بأدق تفاصيلها.
وإن اراد احد شرح الأسباب الموجبة لحصر العِقَد القائمة بالنظريتين دون غيرهما – رغم وجود ملاحظات جوهرية – فإنّه توقف عند زوايا من العِقد دون غيرها ولأسباب أكثر مما تُحصى، وإن كانت النتائج معروفة بانعكاساتها السلبية على لبنان الدولة والكيان والمؤسسات ومواطنيه والمقيمين. فمن الواضح في أوساط عدة، انّ التعاطي مع هاتين النظريتين قد يقود الى الوجه الداخلي للأزمة من دون وجوهها الخارجية. والسبب في ذلك عدم فهم اللبنانيين الغارقين في همومهم اليومية وملفات الفساد والانهيارات المتتالية على كل صعيد، ما عطّل لديهم كل السبل الى فهم ما يجري حول بلادهم. وهنا تكمن مخاطر ما يجري، ومحاولات ربط الساحة اللبنانية التي نعمت بالاستقرار طويلاً، لتتحول ساحة نزاع مفتوح على شتى الاحتمالات الخطيرة. وعليه، بقي الحديث مركّزاً على صعوبة التعاطي مع «رئيس قوي» لا يمكن ان يتراجع امام ما يريد تحقيقه، ولو فشلت كل الخطوات التي ارادها واياً كانت الكلفة المقدّرة على البلاد والعباد، بدليل ما يشكو منه معظم الحلفاء قبل الخصوم، الى ان بات محاصراً من أكثر من جهة.
على هذه الخلفيات، وبمعزل عن العِقد المتصلة بهذا الاسم وهذه الحقيبة، فإنّ ما يجري خرج عن كل التوقعات. لكن ما هو أخطر منها، انّ هناك من يعتقد انّ في قدرته الإستغناء عن الحكومة، بدليل الإصرار على إدارة الدولة بوسائل وآليات وهيئات ومجالس ومراسيم شكّلت بدعاً غير مسبوقة يمكن ان تولد كل يوم، لتكون بديلاً من حكومة كاملة ووزارات معنية تمارس صلاحياتها الطبيعية. كما تكبّل الحكومة المقبلة متى ولدت بما لا يمكن تعديله او العودة عنه. وربما تجاوزت تردداتها ونتائجها المقدّرة العهد الحالي الى الآتي، إن تمّ الالتزام بالمراحل الدستورية المقبلة على خطورتها ودقتها وصعوبة خوضها. فالامر رهن تبدّل الاوضاع عمّا هي عليه من إفلاس مالي ونكد سياسي، وربما بلغت بتداعياتها البعيدة المدى العهد المقبل، الذي لم تعد تفصلنا عنه اشهر عدة تفيض باثنين على سنة كاملة.
والى ان تأتي الساعات المقبلة بما هو مقدّر من تكهنات، يبدو انّ اللقاء الثالث عشر بين عون وميقاتي متى عُقد، سيشكّل بلا شك حداً فاصلاً بين ان يكون «رقم الشؤم» وتتراجع حظوظ التأليف. وربما تنتقل البلاد الى مرحلة الإعتذار بتداعياتها المخيفة. او ان يخرج هذا الرقم من سياق العقائد الموروثة، فيأتي بمفاجأة غير محسوبة حتى لحظة كتابة هذه السطور، وتجدّد الثقة بإمكان ولادة الحكومة المعجزة. فلننتظر.