رياض سلامة…موظف أمريكي برتبة حاكم مصرف
كشفت السياسات المالية والهندسات النقدية التي اتبعها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة طيلة السنوات الماضية أنها كانت خدمةً للولايات المتحدة -الراعي الرسمي للانهيار- وأنها من أهم الأسباب التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه. هذا إضافة للامتيازات التي مُنحت إليه وجعلته محميًّا بغطاء سياسي أميركي لا يمكن المساس به أو ملاحقته قانونيًا.
تعطي الولايات المتحدة الأمريكية لنفسها الحق في التدّخل في الشؤون الداخلية للدول. لكنها ما دخلت في شيء الا أفسدته وأوقعت به الخراب. ومن جملة تدخلاتها في لبنان، أنها تعيّن أشخاص في مراكز ومناصب مهمة في الدولة اللبنانية حتّى تربط البلد بسياساتها وهندساتها وتفرض أجنداتها.
قاد التوسع الاقتصادي الأمريكي في الخارج، السياسات والممارسات النقدية في أوائل القرن العشرين ومنتصفه، فبرزت الدول الوطنية في العالم الثالث. ففي أوائل هذا العقد الأول من القرن العشرين أرسلت الولايات المتحدة، بعثات الخبراء الماليين، ومنهم باركر ويليس وادوين كيميرر، الى البلدان الكاريبي وآسيا الواقعة تحت النفوذ الأمريكي، ككوبا والفليبين، من اجل “اصلاح” نظم النقد وربطها بالدولار. في ثلاثينيات القرن العشرين كان معظم الإرسالين الماليين الأمريكيين كما تسميهم المؤرخة “ايلا روزنبرغ”، الذين تحولوا الى طبقة مهنية من المستشارين الماليين، او كما أطلق عليهم لاحقا “أطباء المال” من خريجي التجربة الاستعمارية. بعد الحرب العالمية الثانية، نما عمل هذه البعثات لتنتقل الى دول كثيرة ومناطق كثيرة في غرب اسيا وغيرها، لتكون المنفّذة والمرسّخة لاستقرار النظم النقدية المرتبطة بالدولار الأمريكي، لتصبح هي المبادرة والمشرفة على وضع خطط المراقبة المالية التي شملت نواحي الإدارة المالية كلها، بما فيها نظم الضريبة، وتنظيم القطاع المصرفي الخاص، والإصلاح النقدي. اعتمد هؤلاء المستشارون الماليون الامريكيون نظرة فوقية تجاه الأمم الأضعف، وهي لا تختلف عن نظرة القوى الامبريالية السابقة، بريطانيا وفرنسا. لكن بعد الحرب العالمية الثانية، تباينت اراء بعضهم في شأن اصلاح المصارف المركزية، مع اراء نظرائهم الأوروبيين. فلطالما عارض الأوروبيون إقامة مصارف مركزية، يمكنها أن تقوّض السيطرة المالية بعد أن فقدت دول أوروبا وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا النفوذ العسكري والسياسي في هذه الدول. لذلك، اقترحوا اصلاح مجالس النقد التي تم تأسيسها اثناء الاستعمار، مع الإبقاء على ربط العملات المحلية بالفرنك او الإسترليني. في المقابل، كان مستشارو المال الامريكيون غير التقليديين، مثل مسؤول الاحتياطي الفيديرالي الأمريكي، يشجعون ويساعدون على تأسيس مصارف مركزية وطنية. فقد فهم الامريكيون الحاجة الى دعم الوطنية الاقتصادية التي تتبنى انشاء مصرف مركزي قوي، من اجل إعادة توجيه اقتصاد هذه الدول بعيدا عن الحواضر الاستعمارية القديمة، أي الأوروبية من جهة، ومن البدائل الشيوعية من جهة أخرى، نحو السوق الدولية الخاضعة للنفوذ الأمريكي. بذلك، أصبح اصلاح المصرف المركزي في دول العالم الثالث، جزءا لا يتجزأ من سرديات أوسع عن “علم” التحديث الاقتصادي، وهي السرديات التي اعتنقها الالاف من الخبراء العرب وخبراء العالم الثالث الأخرى، الذي تدرّبوا في الولايات المتحدة، فأرسوا بذلك السلطة الاقتصادية الامريكية في الخارج.
في لبنان، دعا المستشارون الماليون، في الجامعة الامريكية في بيروت (في الخمسينات والستينات)، وهم خريجو الجامعات الامريكية الى اصلاح مالي مستوحى من صيغ معدّلة من الكينزيّة والمؤسسية الاقتصادية، التي قالوا انها تناسب أكثر أسواق المال غير المتطورة. ساعدت أفكارهم على ادماج نظام لبنان المالي في النظام المالي الدولي. لكن بفعل تحصّن المصالح المحلية لدى الطبقة التجارية-المالية، لم يظهر سوى القليل من التطور الاقتصادي. فبقي لبنان متّكلا على قطاع الخدمات المتضخّم جدا، وتدفق رؤوس الأموال الخارجية، من أجل بقائه الاقتصادي، وعلى التدخل الخارجي من أجل بقائه السياسي. غالبا ما كانت القنوات الدبلوماسية الامريكية ومنتديات المؤسسات المالية الدولية، تعمل كصلة وصل بين الدوائر المحلية والدولية. لكن التعاون لا ينبغي أن يؤخذ على أنه علاقات قوى الند للند، اذ كانت الشبكات السياسية الامريكية الفائضة الوجود خارج الولايات المتحدة تتمتع بمواقع التفوق في المساومة، مقارنة بالأطراف المحلية أو الإقليمية. وكانت هذه الشبكات ولا تزال تستخدم رجالا يضعون رجلا في عالم المال ورجلا في عالم السياسة الخارجية، مثل بول باركر الذي كان مستشارا لبنك انترا وممثلا سابقا لوزارة المال الامريكية في الشرق الأوسط، وكذلك الرئيس السابق للبنك الدولي يوجين بلاك، الذي كان مستشار الكويت المالي. عملت الولايات المتحدة الامريكية من اجل اصلاح مالي سريع في لبنان كي تتجنب انهيار اقتصاد السوق الحرة، وكان من امر الحل التنظيمي المالي الذي اعتمد إثر ازمة بنك انترا ان قويت به قبضة المصرفيين المطبقة على الاقتصاد المحلي. وحين نشبت الحرب الاهلية في 1975، لم يتأذّ المصرف المركزي بشدة، بخلاف مؤسسات الدولة الأخرى، ولم ينحز بصورة فاضحة الى الفصائل المتناحرة. وفي نهاية الحرب، وبعد اتفاق الطائف، برز المصرفيون، وفي مقدمتهم حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، ونصب نفسه حارسا لاستقرار الدولة. اليوم، بعد أكثر من ربع قرن، تمكنت هذه السياسة من احتكار اسطورة تأسيس لبنان الاقتصاد الحر.
مهّد اتفاق الطائف الذي عقد في 1989 بإشراف عربي ودولي، لنهاية الحرب الاهلية، وقد اقرّ الاتفاق وثيقة المصالحة الوطنية بين الأطراف المتنازعة، والتي لا تزال الى حد اليوم ترعى الصيغة الحالية للنظام السياسي وتضمن الاستقرار. وحتى نهاية عام 1992، كانت الدولة قد استعادت سلطاتها الأساسية، ووطدت دعائم المؤسسات الرسمية. وطوال الفترة الممتدة ما بين عامي 1992 و2000، عاد القطاع المصرفي الى القيام بدور رئيسي في الاقتصاد، فأثّر في السياسات المالية والنقدية، وتأثّر في الوقت نفسه بنتائجها وتداعياتها. خلال هذه الفترة برزت العديد من العوامل الأساسية التي حكمت الأداء الاقتصادي العام بطابعها، وأثّرت بالتالي على شروط عمل القطاع المصرفي، الذي تأثر بتزايد التبعية المتبادلة بين المسارين المالي والنقدي في الاقتصاد، فغدا طرفا أساسيا في المعادلة التي أطلقت في بداية الأمر، ثم قيّدت أولويات الاقتصاد الكليّ وتحكّمت بأزمة الدين العام.
في فترة 1993-1996، كان للسياسات المالية التوسعية تأثير إيجابي في المرحلة الأولى على معدلات النمو الحقيقي 9.25% ليلامس الناتج المحلي القائم المستويات التي سجّلها في بداية الحرب. بعد 1996 وصولا الى سنة 2000 بدأت تظهر الانعكاسات السلبية للسياسات المعتمدة في النصف الأول من التسعينات، فتراجعت معدلات النمو الحقيقي، وسيطر الركود لاحقا على مجمل الأداء الاقتصادي العام. ابتداءا من عام 1997، أصبحت استعمالات الديون الخارجية من قبل الحكومة، وتحديدا إصدارات” اليوروبوند” المكوّن الأساسي في حركة الرساميل المرصودة، بينما تراجعت أهمية البنود المرتبطة بعناصر السياسة النقدية والمتمثلة في تدفق الرساميل قصيرة الاجل التي تتأثر بمعدلات الفائدة ومدى استقرار أسواق القطع. أصبحت السياسات المالية المسؤول الأول عن تأمين التدفقات النقدية والرأسمالية المطلوبة لتغطية العجز المزمن في ميزان التجارة والخدمات، بعد أن كانت هذه التغطية في النصف الأول من التسعينات تتم بتدفقات ترتبط بمزايا اقتصادية، مثل التوظيفات المباشرة في القطاع العقاري، وبالقوة التنافسية التي أمنتها السياسة النقدية وأدّت الى تدفق الرساميل قصيرة الأجل.
قبل اغتياله، هيمن رفيق الحريري وهو الذي كسب ثروته في السعودية بعد التخمة النفطية في السبعينات، على السياسة اللبنانية الاقتصادية والمالية في حقبة ما بعد اتفاق الطائف، واعتنق تناغما مع الاتجاهات العالمية الغالبة في ذلك الوقت، سياسة نيوليبيرالية بلا تحفّظ. وقد افضت توجهاته نحو الخصخصة، وبناء العقارات في وسط بيروت، ومشاريع الاشغال العامة غير الإنتاجية، الى تجفيف خزينة الدولة، واثراء المساهمين من القطاع الخاص. فكان من العواقب الاقتصادية الكبرى، تعاظم الاقتصاد الريعي، وتضخّم أسعار العقارات، ومزيد من هجرة العمالة الماهرة، وتفاقم عدم المساواة الطبقية، نتيجة تراخي السياسة الضريبية، وخلق أنماط جديدة من الملكية الرأسمالية في الشركات القابضة، وتزايد العجز التجاري وإعادة رسملة أساسية للقطاع المصرفي. والأكثر دلالة، هو أنّ الحريري اعتمد على الدين العام بدلا من الضريبة ليموّل مشروعه لإعادة البناء، والانفاق العام، فتحوّل لبنان دولة مزمنة الاستدانة، حيث تعاظم الدين السيادي الى نسبة 120% من الناتج المحلي الإجمالي، من 3.3 مليار دولار سنة 1993 الى 70 مليار دولار عام 2015. وأعيد تشكيل سلطة المصرفيين من خلال إعادة الهيكلة هذه، حيث بات جزء كبير من الدين العام اللبناني بحوزة المصارف المحلية. كانت المصارف اللبنانية قادرة على تأمين مستوى عال من الكسب من خلال الإقراض السيادي، بفضل نسب الفائدة السخيّة، وسياسة الهندسات المالية التي وضعها مصرف لبنان. وعلى مدى عهد الحريري ظل المصرف المركزيّ صانعا أساسيا للقرار في إدارة الدّين والنقد والسوق المالية. ولهذا الغرض استقدم الحريري رياض سلامة من ميريل لنش، شركة الاستثمار العالمية، ليصبح حاكما عام 1993.
يستوجب الحديث عن رجل أمريكا في لبنان، رياض سلامة، -الذي قالت عنه السفيرة الامريكية في لبنان صرحت دوروثي شيا في تصريح لـ OTV انه “على لبنان تحويل أفكاره الإصلاحية إلى حقيقة، واتخاذ خطوات ملموسة لكسب التأييد الدولي. وأنه كان من الخطأ اتهام أي شخص أو مؤسسة بالانهيار الاقتصادي في لبنان” رداً على سؤال حول دور حاكم البنك المركزي رياض سلامة، وأشارت أنّه “يتمتع بثقة كبيرة في المجتمع المالي الدولي”. وحول دور سلامة، قال شيا إن الولايات المتحدة عملت معه عن كثب على مر السنين. وأضافت أن تعيينات البنك المركزي كانت مسألة سيادية. وقالت “إذا لم يكن لدى المجتمع المالي الدولي ثقة في قيادة المؤسسات المالية الكبرى في حكومتك فأعتقد أنك لن ترى تدفقات الاستثمار … التي يحتاجها الاقتصاد بشدة”. كما قال عنه ديفيد هيل مستشار وزير الخارجية الأمريكي، اثناء زيارة تأييد لرياض سلامة في منزله في كسروان (16 نيسان 2021) “اٍنّ حاكم المصرف المركزي هو شخصية أساسية للمضي قدما، لا مؤشرات تدينه بما يخصّ الفساد المالي والتحقيقات لم تنته بعد”-التوقف عند السياسات المالية التي تبناها هو وفريقه، والتي أوصلت لبنان الى الازمة الاقتصادية التي يعيشها اليوم وسط جدل سياسي واسع بين مؤيد، ومدافع عن هذه السياسات، وبين من يعتبرها أقلّ الممكن في اطار ظروف معقّدة سياسيا واقتصاديا داخل المشهد السياسي اللبناني وخارجه، وبين من يعتبرها سياسات أمريكية بامتياز هدفها السيطرة والهيمنة على لبنان وعدم السماح له ولا لمؤسساته بالخروج من ازماته الخانقة ولو بالحد الأدنى تجنّب الانهيار والسقوط، ليس في مديونية باتت هي أساس البنية الاقتصادية اللبنانية المنهارة، بل سقوط الدولة ومؤسساتها ونظامها بأكمله.
أصبح رياض سلامة، الذي كان في الثانية والأربعين آنذاك، صاحب أطول ولاية بين حكام المصرف المركزيّ. فبعد أكثر من ربع قرن على رأس الهرم، أصبح واحدا من أكثر الوجوه العامة شهرة في البلاد. كان يُحتفى به باعتباره المموّل الذي عمل على استقرار العملة اللبنانية رغم كل الصعاب بل وكان يُنظر إليه في وقت ما على أنه مرشح رئاسي. في عام 2019، حصل على درجة A من مجلة Global Finance التي تتخذ من نيويورك مقراً لها في تصنيفاتها السنوية. وكان سلامة اسم مألوف في وول ستريت وفي العواصم الأجنبية.
أشاد العديد من السياسيين والإعلاميين والنخب بشخصية رياض سلامة واعتبروه في مرحلة من المراحل المنقذ للاقتصاد اللبناني ومهندس السياسات الناجحة. فمع تنامي نفوذ مصرف لبنان وجمعيّة مصارف لبنان، سعى الطرفان الى تعزيز صورتهما في المخيّلة اللبنانية الجماعية. في عام 2008 نشرت الجمعية كتاب اليوبيل الذهبي 1959-2009، احتفالا بمرور خمسين عاما على تأسيسها، وحين حلّت السنة الخمسون على تأسيس مصرف لبنان، عام 2014، عُرض على ركاب طيران الشرق الأوسط فيلم وثائقي خاص، عنوانه: حاكم بأمر الليرة، أشاد الفيلم بمصرف لبنان على أنه عمود الاستقلال الوطني، والازدهار الاقتصادي. كذلك أوكل مصرف لبنان الى الصحيفة اللبنانية الأولى حينذاك السفير، أن تنشر مجلّدا تذكاريا صدر عام 2015، التي مدحت بهيبة حاكم مصرف لبنان حين يدخل المصرف، ومهمته الوطنية الخطيرة لحماية العملة الوطنية والدفاع عن الخزينة العامة في وجه الساسة المغامرين. ووصف سلمان سلامة حينها ب “الضمانة الذهبية” لذلك الاستقرار. كان لدى كل من مصرف لبنان وجمعية المصارف، الكثير من أسباب الابتهاج فالعلاقة التعاونية بينهما، والتي نشأت في منتصف القرن العشرين، أدّت الى وضع أسس أوليغارشيا مالية ما انفكّت تتعاظم، ونجت من أزمات مالية، وانكماشات اقتصادية، واضطرابات سياسية، واحتلالات أجنبية، وحرب أهلية معقدة في سنوات (1975-1990). في عام 2015، وبينما كان الاقتصاد المحلي يكافح، والطبقة الوسطى تترنّح، كانت موجودات المصارف الخاصة تعادل أربعة اضعاف الدخل المحلي الإجمالي. وبفضل هندسات مصرف لبنان المالية، واصل المصرفيّون اقراض الدولة، وجني أرباح وفيرة في المقابل. ملكت المصارف المحلية أكثر من 50% من الدّين السياديّ اللبناني المتضخّم. وحصتها هذه من الديّن غير معهودة في حوليّات الدّين السيادي في البلدان النامية، التي تقع رهينة في كثير من الأحيان للدائنين الخارجييّن. فالدّين السيادي، ولا سيّما من دائنين أجانب، كان على مدى قرون-وظل أيضا- وسيلة لتقويض الاستقلال المالي، واستحضار التدخّل الخارجي. وقد راوحت الاليات المستخدمة لذلك، بين الاستعمار من خلال الإقراض في الأزمنة الاستعمارية، وبين المشروطيّة في القرن العشرين في المؤسسات المالية الدولية.
في حالة لبنان، في البداية اعتمدت السياسة النقدية الحكومية المغالية في المحافظة، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، على توازن الموازنات، وتجنّبت اقتراض الدولة، حتى لغرض التنمية الاقتصادية. فجعلت الدولة في مأمن من التعرّض لشروط المؤسسات المالية الدولية، لكن ذلك لم ينطو على أي ضمان للاستقلال من التدخل الخارجي، او الالاعيب المحلية. من هنا دخلت المؤسسات المالية الدولية على خط الازمات المتتالية في لبنان، حيث بدت استراتيجية صندوق النقد الدولي واضحة، فالشروط المسبقة قبل توقيع البرنامج ليست سوى مقدمة تليها لائحة طويلة من المطالب التي يقترن تنفيذها بالإفراج عن القرض المخصّص للبنان. وهذه الشروط المسبقة تبلّغتها لبنان من ممثلي الصندوق أثناء المفاوضات التي جرت منتصف سنة 2020، علماً بأن ممثلي الصندوق لم يكتفوا بتحديد الشروط المسبقة واللاحقة، بل تطرقوا إلى الأهداف المطلوب تحقيقها من كلّ ما يتعلق ببرنامج القرض. أصلاً الحلّ بحسب وصفة الصندوق، لا يختلف كثيراً عن مطالب النيوليبراليين الذين يعتقدون أن المخرج الوحيد للأزمة في لبنان هو الدفاع عن مصالحهم أولاً ثم تقطير المال العام على الفئات الأكثر هشاشة. قد يكون هذا الحلّ مقبولاً أكثر من المقترحات التي يحاول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وجمعية المصارف فرضها كحلّ يمنح المصارف القدرة على الاستيلاء على ما تبقى من الأملاك العامة، لكنّه في أحسن الأحوال مسار قاس اجتماعياً لأن ثمن خطواته المسبقة وما يليها مباشرة ستدفعه الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة، وهذا ما حصل فعليا وبدا ظاهرا في الشارع اللبناني، في معاناة الناس في كل المناطق. عملياً، تمثّل ثلاثية الشروط المسبقة محاور خلافات محلية جوهرية. فالمصالح المتضاربة داخل النظام تريد شروطاً على قياسها، لا ضمن معايير اقتصادية ومالية ونقدية واضحة كالتي يحدّدها الصندوق. سواء كانت هذه المعايير ملائمة للبنان، أم أنها ستنزل كوباء على بعض الشرائح الاجتماعية، فإن الخلاف المحلّي حولها مرتبط ببنية المصالح وقوى النفوذ الاجتماعية ومواقع كلّ منها ضمن تركيبة النظام الحالي. لذا، لا تستحوذ مطالب الصندوق المسبقة، على الإجماع، بل يسعى كل طرف إلى اقتطاع ما يراه ملائماً لمصالحه ومصالح الطبقة التي يمثّلها.
طوال سنوات تنوّعت عوامل التأثير الأجنبي في رسم النظام المالي في لبنان، بين بعثات من صندوق النقد الدولي منذ خمسينات القرن الماضي دفعت نحو ترتيب الأوضاع القانونية للعمل المصرفي، وبين سياسات شبه حكومية (حاكم المصرف مثلا)، تعمل من أجل توجيه تدخّل الولايات المتحدة الامريكية وحكومات أخرى في حل الازمات المصرفية. هذا النوع الناعم من التدخل الأمريكي بمعيّة حاكم مصرف لبنان، هو نتيجة توجه سياسي تبنّته الطبقة المالية اللبنانية وحلفاؤها في الحكومة، لأنّ مصالحهم مرتبطة بمصالح معسكر الرأسماليين الغربيين، والنيوليبيرالية.
العلاقة بين رياض سلامة والولايات المتحدة الامريكية بدأت منذ أن تم اختياره ليكون حاكم مصرف لبنان، وهذا الخيار يدخل في إطار سياسة الهيمنة الامريكية على الاقتصاد العالمي وفرضها السياسات الاقتصادية والمالية على الدول النامية، بما في ذلك القيادات والسياسات التي تدير المؤسسات المالية المحلية وعلى راسها البنوك والمصارف المركزية. أصبح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بتاريخ 3 اذار/مارس2009 أول حاكم مصرف مركزي عربي يقرع جرس الافتتاح إيذانا ببدء التداول في بورصة نيويورك. قرع سلامة، الذي ترأس وفدا لبنانيا رفيع المستوى من بورصة بيروت، فضلا عن قطاعي الأعمال والمصارف، الجرس، معلنا بدء التداول النشط في أكبر بورصة في العالم. هذا التتويج الذي منح لرياض سلامة كان دليلا كافيا على أنه وقع تزكيته من قبل أباطرة المال في وال ستريت، وعلى أنه موظف لدى الشبكات المالية وأباطرة صناعة السياسات الاقتصادية في العالم، مما يجعله مجرد أداة تنفيذية للسياسات المالية الامريكية في لبنان.
رياض سلامة الرجل الذي عمل على وضع جملة من السياسات النقدية والمالية التي لم تخدم سوى المتنفّذين وأصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين والسياسيين وصناع القرار على حساب البرامج الاقتصادية الواعدة التي من الممكن أن تساعد في حل الازمة في لبنان. السؤال المروح: أيّ إرث سيتركه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بعد تركه حاكمية المصرف، أو حتى قبلها. عدا عن خلية المستفيدين والمخصصات العقارية والمالية الضخمة التي وزعها عليهم، والديون التي تسبّب فيها وإفقار اللبنانيين وانهيار سعر الليرة، لا يمكن أن يكتب عن إرث حضاري قد يتركه سلامة. لقد تمكن من تطويع غالبية السياسيين فلم يعد موضوع تغييره وخلافته مطروحاً للبحث رغم اهتزاز عرشه، بعدما استطاع أن يمسك مجدداً بموقعه، كما يمسك بدفتر كشوفات السياسيين وعائلاتهم والمصرفيين والاعلاميين، ليصبح أقوى من أي جهاز مخابرات. وانتقل من أحد أركان التركيبة ومن موظف فئة أولى، الى قوة سياسية يحسب لها ألف حساب. لم يتم التعامل مع سلامة، في المأزق الأخير، ورغم الحماية القانونية لمنع إقالته، كموظف بل كقوة كبيرة توازي بثقلها الاحزاب السياسية، لكونه أثبت أنه أحد حلفائها الاساسيين. وأظهرت نتائج الازمة الاخيرة أن سلامة استطاع ترويض خصومه، وخرج منتصراً رغم كل الاخطاء والارتكابات، وما ينقل من كلام له في مجالس خاصة مصرفية ومالية عن قدرته على تحطيم أكثر لسعر الليرة إذا ضيق الخناق عليه، في مقابل ظهوره العلني على أنه المنقذ الوحيد لليرة. التغطية «المستقبلية» له واضحة في شكل عام، وأسبابها مفهومة، نظراً الى حجم المستفيدين من هذه التركة داخليا وخارجيا. لم يكن مفاجئاً أن يتحول سلامة إلى أحد أبرز رموز المواجهة «المستقبلية» وحتى الـ 14 آذارية، كما لو أنه أحد رموز «الاستقلال الثاني»، في حين أنه أحد رموز مرحلة الوجود السوري بعد الطائف، ومساهم أساسي في تغطية أموال دخلت الى مصارف في لبنان وخرجت منها في تلك المرحلة.
هندسات مالية مشبوهة تهدّد بالانهيار
ارتباطا بسياسات رياض سلامة المالية عرض المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق في تقريره الاقتصادي جملة من النتائج والتداعيات لهذه السياسة. حيث يواجه لبنان أزمة مصرفية ومالية ونقدية واقتصادية عميقة ومتزامنة نادرة الحدوث، في ظل تشديد الحصار الغربي – الأميركي بشراكة رياض سلامة محافظ المصرف المركزي الذي لعب أدوارا مشبوهة أدّت الى حالة الانهيار الحالية. فالعجز المتفاقم في ميزان المدفوعات نتيجة تراجع التحويلات الخارجية التي طالما استخدمت لتغطية العجز في الحساب الجاري، خصوصاً في الفترة التي تلت سنة 2011 بعد سنوات طويلة من الفوائض رافقها إنفاق استهلاكي مفرط، انعكس ضغوطاً متزايدة على الليرة ولاحقاً على القطاع المصرفي برمّته.
حاول مصرف لبنان امتصاص تداعيات الازمة باستخدام استراتيجيات أطلق عليها “الهندسات المالية” خلال سنة 2016، فيما هي في الواقع ليست إلا النسخة اللبنانية من “مخططات بونزي ” (Ponzi Scheme). إذ إن نجاح هذه الاستراتيجية كان يتطّلب بطبيعة الحال دفع فوائد مرتفعة جداً، لم يكن أمام مصرف لبنان مصادر لتغطيتها سوى إيداعات المصارف المستفيدة ذاتها. وذلك دون أدنى تقييم للمخاطر والعواقب المترتّبة على هذه العملية، وحتى دون أدنى اعتبار للقانون الذي ينص على أن حسابات المصارف لدى مصرف لبنان لا تنتج فوائد (المادة 98 من قانون النقد والتسليف). وهذه السياسات، جنباً إلى جنب مع العجز البنيوي في المالية العامة:
-أدخلت البلاد في حلقة مفرغة من الاستدانة وخدمة الدين المرتفعة التي باتت تمتص أكثر من نصف إيرادات الموازنة.
-أدّت إلى نتائج كارثية ليس أقلّها تدمير القطاعات الإنتاجية وإغراق ميزانية مصرف لبنان بخسائر فادحة لم يتم حصرها حتى تاريخه.
-أدّت الى استنزاف احتياطي البلاد من العملات الصعبة. وبما أن المصارف اللبنانية كانت الزبون الرئيسي لمصرف لبنان الذي كان يحمل ما يفوق 61 % من دين الدولة بالعملات نهاية عام 2020، فقد بلغت نسبة أصول هذه المصارف الموظفة كودائع وشهادات إيداع لدى المصرف المركزي حتى نهاية شهر آذار 2021 حوالي 60 % من إجمالي أصولها، مقابل 11% في سندات الخزينة بالدولار والليرة، و23 % تسليفات للقطاع الخاص، والبقية لدى مؤسسات مالية. هذا الواقع جعلها مكشوفة تماماً على خسائر مصرف لبنان إلى حد أن حجم الخسائر فاق رأس مال الكثير من المصارف. ومن هذه المصارف على سبيل المثال: بنك البحر المتوسط ميد – (Med) وBML وFNBوIBL وبالنتيجة أغلقت المصارف أبوابها في تشرين الأول2019، لتباشر لاحقاً بتطبيق سياسة كابيتال كونترول (capital control) انتقائية وتعسفية على المودعين الصغار مانعة إياهم من سحب ودائعهم.
عجز الحكومة عن دفع الديون المستحقة عليها بالعملات الأجنبية
توقف الحكومة اللبنانية في آذار 2020 عن دفع ديون مستحقة عليها بالعملات بقيمة 1,2 مليار دولار بسبب تراجع احتياطيات العملات الصعبة ليفتح ذلك كله الباب أمام زحف هائل من التضخم المفرط. حينها كان الاحتياطي الأجنبي لدى مصرف لبنان يشهد تراجعاً مستمراً، من 43,5 مليار دولار في أيلول 2018 إلى 29 مليار دولار في كانون الثاني 2020، من ضمنها سندات يوروبوندز يملكها المصرف بقيمة 5 مليار دولار كانت قد فقدت الجزء الأكبر من قيمتها. وكذلك حوالي 15 مليار دولار عبارة عن احتياطي إلزامي للمصارف. أي أن الاحتياطي المعلن القابل للتصرف كان في حدود 9 مليار دولار. مقابل كلفة دعم سنوي بقيمة 5,5 مليار دولار تقريباً وسندات يوروبوندز مستحقة مع فوائدها بقيمة 5,2 مليار دولار لسنة 2020 وحدها. وهذا دون احتساب الخصوم المستحقة للمصارف على مصرف لبنان بقيمة تتراوح بين 67 إلى 80 مليار دولار،) تقدّرها مصادر مصرفية بقيمة 76,938 مليار دولار حتى شباط 2021.
انهيار الليرة مقابل الدولار
ارتفع سعر صرف الدولار من 1507 ليرات للدولار الواحد قبل تشرين الأول 2019إلى 2000 ليرة نهاية السنة نفسها. ثم قفز إلى 2800 ليرة في نيسان 2020، واستمر بالارتفاع ليصل إلى 8000 ليرة في نهاية عام 2020. إلا أن الانهيار الكبير لقيمة الليرة حصل في النصف الأول من سنة 2021 مع ارتفاع سعر صرف الدولار من 9000 ليرة بداية العام إلى 15800 ليرة في حزيران من العام ذاته. أي أن سعر صرف الدولار مقابل الليرة ارتفع بنسبة 950 % خلال سنة ونصف تقريباً. مما يعني أن الليرة فقدت أكثر من 91 % من قيمتها حتى حزيران 2021.الجدير ذكره أن هذا التراجع الهائل في سعر صرف الليرة ليس الأول من نوعه. فقد سبق أن شهدت الليرة انهياراً كبيراً خلال فترة الحروب المحلية 1975 – 1990، وتحديداً في الفترة بين سنة 1986 وأيلول 1992. حيث ارتفع سعر صرف الدولار من 87ليرة إلى 3000 ليرة خلال الفترة المذكورة، أي بارتفاع نسبته 33.50% تقريباً خلال فترة سبع سنوات وبمعدل 479 % سنوياً. لكن الفرق بين المرحلتين أن انهيار سعر صرف الليرة في المرحلة الأولى حدث في ظل قطاع مصرفي متين نسبياً ومالية عامة شبه متوازنة بالإضافة إلى معدلات نمو إيجابية للناتج المحلي بلغ معدلها 15 %.
أزمة بنيوية عميقة في الجهاز المصرفي وأزمة مديونية مستعصية
بالإضافة إلى معدلات نمو سلبية للناتج تراوحت بين – 6,7 % سنة 2019 وحوالي 20 % سنة 2020، مع توقّعات بأن يبلغ معدل الانكماش سنة 2021 ما يساوي – 10%. وكان من نتيجة تدهور سعر صرف الليرة بالإضافة إلى عوامل أخرى، منها عجز الحكومة عن ضبط الأسعار في سوق محكومة لاحتكار القلة، وكذلك تداعيات فيروس كورونا الذي عطّل الدورة الاقتصادية لفترات طويلة، فضلاً عن انفجار مرفأ بيروت الذي يعتبر شريان الحياة للاقتصاد اللبناني، أن ارتفعت معدلات التضخم بشكل هائل بحيث سجّل مؤشر أسعار المستهلك لسنة2020 حوالي 84 %، قبل أن يرتفع إلى 155,4 % على أساس سنوي في شباط 2021 بالمقارنة مع شباط 2020. مع الإشارة إلى أن هذا المعدل يبقى أدنى بكثير من مستواه في المرحلة الأولى، والذي بلغ 741 % نهاية سنة 1987.
القطاع المصرفي مهددّ بالإفلاس
بدأت مؤشرات الضعف تظهر على القطاع المصرفي منذ منتصف العام 2019. فالقاعدة الرأسمالية للمصارف التجارية شهدت ضموراً متزايداً تجسّد في تراجع القيمة الحقيقية للرساميل من 20,6 مليار دولار في آذار 2019 إلى 15,6 مليار دولار في آذار 2021. كما انخفض حجم الودائع بنسبة 8,6 % خلال سنة واحدة، من 223355 مليار ليرة إلى 204091 مليار ليرة خلال الفترة بين آذار 2020 وآذار 2021.هذه المؤشرات السلبية تزامنت مع تعاظم الخسائر المحقّقة والمتوقّعة في أصول هذه المصارف، والتي تراوحت التقديرات بشأن حجمها بين 6,4 مليار دولار و40 مليار دولار باختلاف التقديرات. في حين أن خطة التعافي الحكومية، التي لاقت تأييداً من صندوق النقد الدولي، تقدر الخسائر الإجمالية للقطاع المصرفي ككل بقيمة 69 مليار دولار أي 241 ألف مليار ليرة على أساس سعر صرف 3500ليرة للدولار الواحد، منها 50 مليار دولار خسائر مصرف لبنان. وذلك بالمقارنة مع حجم ناتج محلي إجمالي لم يتجاوز حينها 53 مليار دولار. وبمعزل عن حجم الخسائر في الأصول المصرفية وطبيعتها، تقدّر مصادر لجنة الرقابة على المصارف أنه من أصل 63 مصرفاً عاملاً هناك 25 مصرفاً على الأقل لا تملك الرساميل الكافية لتغطية المؤونات المطلوب تكوينها مقابل تلك الخسائر، ومن بينها تسعة مصارف كبيرة (مجموعة ألفا التي تضم 16 مصرفاً تصنف من أكبر المصارف اللبنانية (.
هذه الخسائر الضخمة تؤثر حتماً على ملاءة رأس مال القطاع المصرفي وكفايته وتؤدي به إلى الإفلاس، ما لم تُضخّ رساميل جديدة بقيمة تتراوح بين 6,7 مليار دولار و40.13مليار دولار لاستعادة ملاءة هذا القطاع المحددة بمعدل 10,5 %. هذا في حال أريد لهذه المصارف العودة إلى العمل بصورة طبيعية تحت سقف الالتزام بالمعايير الدولية، أي بمعنى العمل ضمن الجهاز المالي الدولي والحفاظ على علاقاتها مع البنوك المراسلة. ولكن نظراً لضخامة تكلفة عملية إعادة الرسملة المشار إليها، والتي هي بالتأكيد خارج استطاعة القطاع المصرفي، تصبح عملية إعادة هيكلة هذا القطاع برمّته أمراً واقعاً ولا مفر منه. خصوصاً أن المعطيات تظهر يوماً__ بعد آخر أن الثقوب في جسد القطاع المصرفي هي في الواقع أكبر بكثير من محاولات مصرف لبنان سدّها وترقيعها بتعاميمه المتتالية.
التفاف حاكم مصرف لبنان على خطة التعافي الإصلاحية للحكومة
اقترحت حكومة الرئيس حسان دياب في أواخر شهر نيسان 2020 خطة للتعافي المالي كأساس للتفاوض مع صندوق النقد الدولي (IMF) من أجل الحصول على برنامج دعم مالي تتراوح قيمته بين 10 مليارات دولار إلى 15 ملياراً على مدى خمس سنوات، لمساعدتها في مواجهة الأزمات مباشرة، أو في الحد الأدنى تمكينها من التفاوض مع الدائنين الأجانب واللجوء إلى أسواق الاقتراض الدولية في المدى المتوسط (ثلاث سنوات للحصول على قروض جديدة).لكن المعارضة الشديدة للخطة مِن قبل جهات سياسية ومصرفية فاعلة وعلى راسها حاكم مصرف لبنان، رافضة لطريقة توزيع أعباء عملية التصحيح التي تضمنتها الخطة، أدت إلى انكفاء حكومة دياب عن المضي بها، وبالتالي تعليق المفاوضات التي كانت جارية بين الحكومة والصندوق بطلب من الأخير، ريثما تتمكن الحكومة وجميع الأطراف السياسيين من تحقيق توافق وطني حول الخطة. وذلك بعد عقد 17 جولة تفاوض عبر الإنترنت بين الطرفين.
منذ اللحظة التي طرحت فيها خطة التعافي المالي الحكومية المشار إليها أعلاه، باشر حاكم مصرف لبنان بإصدار سلسلة من التعاميم والقرارات غايتها الأساسية الالتفاف على الخطة المذكورة، مستبقاً بذلك تحميل القطاع المصرفي أعباء التصحيح في أي عملية لإعادة هيكلة القطاع، قد ترتّب تصفية العديد من المصارف غير المؤهّلة للاستمرار. وذلك من خلال السعي بأسرع ما يمكن إلى تنظيف وترميم ما أمكن من ميزانيات القطاع المصرفي المثقلة بالأصول الرديئة، بما يمكنّه من تقليص فجوة الخسائر المقدرة بنحو 69 مليار دولار، ولو أدّى ذلك إلى زيادة الأكلاف على المجتمع والاقتصاد ومضاعفة أوجاع الفقراء والمعوزين وسلب المودعين الصغار ومتوسطي الحال أبسط حقوقهم وجنى أعمارهم. ومن أبرز تلك التعاميم والقرارات ما يلي:
-تعميم رقم 151 تاريخ نيسان 2020، يسمح للمودعين بسحب مبلغ حتى سقف 500 دولار بالليرة على أساس سعر صرف 3900 ل.ل. للدولار الواحد. لكن هذا التعميم جرى تعطيله مطلع حزيران 2020 بقرار من مجلس شورى الدولة.
-قرار وسيط رقم 13259 تاريخ 26 آب 2020، من أجل تحديد الحد الأدنى لنسب الملاءة المطلوبة، يفرض على المصارف تكوين مؤونات بنسب محددة مقابل توظيفاتها الرديئة (الديون السيادية وديون العملاء المتعثرين).
-تعميم أساسي رقم 154 تاريخ 27 آب 2020، دعوة المصارف لزيادة رساميلها بنسبة 20 % من حقوق الأسهم العادية، بالإضافة لتكوين حسابات خارجية لدى البنوك المراسلة بنسبة لا تقل عن 3 % من الودائع بالدولار الموقوفة في منتصف العام 2019. وذلك في مهلة أقصاها نهاية العام 2020، قبل أن يمدد حاكم المصرف المركزي المهلة حتى نهاية شباط من العام 2021 وكذلك حث عملائها ممن قاموا بتحويل ما يفوق 500 ألف دولار إلى الخارج منذ العام 2017، على إيداع ما يوازي 15 % إلى 30 % من قيمة هذه التحويلات في حساب خاص مجمّد لمدة 5 سنوات. إن نسبة 20 % تساوي عملياً حوالي أربع مليارات دولار، وهذا مبلغ هزيل جداً قياساً على حجم خسائر المصارف المقدرة بحوالي 18 مليار دولار كحد أدنى. حيث أنّ إعادة رسملة المصارف اللبنانية تحتاج إلى أكثر من 25 مليار دولار. وبمراجعة سريعة للميزانية المجمّعة للمصارف اللبنانية تبيّن بوضوح التراجع الكبير في هذه الميزانية، بما في ذلك الودائع بالعملات منذ تاريخ صدور التعميم وحتى نيسان 2021. مما يعني أن التعميم المذكور لم يكن إلا حبراً على ورق.
-تعميم أساسي رقم 158 تاريخ 8 / 6 / 2021، دعوة المصارف لتسديد تدريجي للودائع بالعملات الأجنبية المكوّنة في الحسابات المفتوحة قبل 31 / 10 / 2019، محتسبة على أساس الأرصدة الموقوفة بتاريخ 31/3/2021شرط ألا تتجاوز أرصدتها المبالغ المتوفّرة بتاريخ هذا التعميم. ولتنفيذ هذا القرار يقوم المصرف بناء على طلب المستفيد بفتح حساب خاص متفرّع يحوّل إليه مبلغ أقصاه 50 ألف دولار. على أن يقوم المستفيد برفع السرّية المصرفية عن هذا الحساب حصراً. ويتم السحب من هذا الحساب وفق آلية معينة مفصّلة في التعميم.
الاستنتاجات
-ارتباط النظام المالي العالمي بالمؤسسات النافذة الامريكية التي تحكم العالم وتفرض السياسات المالية والنقدية والاقتصادية على الدول المستهدفة عن طريق (وزارة الخزانة الامريكي، الاحتياطي الفيدرالي، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي). ولبنان هو أحد هذه الدول المستهدفة بالسياسات الامريكية.
-علاقة البنوك المركزية حول العالم مع النظام النقدي الدولي، رسمها نخبة من المستشارين الماليين الأمريكيين عقب الحرب العالمية الثانية مهمتها فرض انشاء بنوك ومصارف مركزية على الدول مع رسم كامل لسياسات وادارتها بما يخدم مصالح الهيمنة الامريكية.
-علاقة رياض سلامة من موقعه كحاكم للمصرف المركزي مع وزارة الخزانة الامريكية، وول ستريت، وعلاقته بالشخصيات النافذة في الولايات المتحدة الامريكية.
-انعكاس العلاقة التنظيمية لرياض سلامة مع المؤسسات النقدية العالمية، وعلاقاته الشخصية مع الشخصيات الامريكية النافذة على أدائه في ادارة النظام المصرفي والنقدي اللبناني.