حسن فحص – أساس ميديا
هي المرّة الأولى التي يعلن مقتدى الصدر مشاركته في مجالس عاشوراء التي تُقام في منزل المرجع الأعلى السيد علي السيستاني. وهي حركة سعى الصدر من ورائها إلى تحقيق مجموعة من الأهداف، لعلّ أبرزها وأوضحها محاولة الإيحاء بأنّ الخطوات التي يقوم بها تنسجم مع توجّهات المرجعيّة، وأنّ الخطوات التي يقوم بها على صعيد العملية السياسية تلاقي ما ترغب به هذه المرجعية، خصوصاً ما يتعلّق بتمسّكها بمبدأ بناء دولة قوية قادرة على حماية السيادة العراقية، وتلبية المطالب الشعبية، ومحاربة الفساد، ومحاكمة الفاسدين، ومكافحة السلاح المتفلِّت، وبناء مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنيّة بعيداً عن أيّ تدخّلات وتأثيرات.
حاول الصدر توظيف الزيارة إلى “بيت المرجعيّة العليا” في إطار مساعيه الرامية إلى البحث عن مخرج لإعلانه العزوف عن المشاركة في الانتخابات. خصوصاً أنّ المرجعية في النجف تُعتبَر من المتمسّكين والداعين إلى إجراء هذه الانتخابات في الموعد المحدّد لها، بهدف إعادة إنتاج السلطة بعيداً عن المحاصصة، وفي إطار الأهداف التي يريدها الشعب العراقي، لكي تضع حدّاً لسياسات التحاصص والتقاسم والفساد القائمة منذ سنوات.
ويبدو أنّ رياح النجف والمرجعيّة لم تأتِ كما تشتهي سفن الصدر، الذي وجد نفسه أمام مأزق أن تحصل الانتخابات من دون مشاركته، مع ما يعنيه ذلك من إمكان خروجه من الشراكة العملية في السلطة، واضطراره إلى الانتقال إلى معسكر المعارضة من خارج السلطة بعدما أتقن لعب دور المعارض من داخلها من دون أن يتخلّى عن تحصيل المكاسب والمغانم والحفاظ على حصّته في السلطة وتوسيعها وتطويرها، مستغلّاً الموقع التمثيلي الذي يمتلكه في الشارع والبرلمان على حدٍّ سواء.
وكان الصدر قد أراد من قرار العزوف عن المشاركة صرف الأنظار عن تصاعد حدّة الاعتراضات الشعبية ضدّ تيّاره السياسي، خصوصاً بعد فاجعتيْ مستشفى ابن الخطيب في بغداد ومستشفى الإمام الحسين في الناصرية، اللتين حدثتا في عهد وزير الصحة المحسوب على التيار الصدري، واُستُكملتا بفشل وزير الكهرباء في إدارة أزمة توفير الطاقة في فصل الحرّ الذي يُعتبر اختباراً حقيقياً لنجاح أي وزير أو فشله في العراق. وهذا الوزير هو أيضاً من حصة التيار الصدري. وكانت توقّعات الصدر أن لا تقف دعوات القوى السياسية عند حدود التمنّي عليه العودة عن هذا القرار، بل أن تلاقيه في هذا الموقف بالشكل الذي يسمح بفرض معادلة التأجيل. إلا أنّ القوى السياسية تمسّكت بالمواعيد المحدّدة لإجراء الانتخابات، مستفيدةً من فرصة المقاطعة الصدرية بأن تستقطب جزءاً من الشارع الصدري لتوسيع قواعدها البرلمانية.
لم يترك انكشاف هذه الحقائق أمام الصدر ترف الخيارات، والاستمرار في اللعب على حبل المقاطعة، وانتظار الضغوط الشعبية والسياسية المطالبة بعودته عن هذا القرار، ولم يكن أمامه سوى الكشف عن حقيقة موقفه من الانتخابات، وإعلان شروط عودته عن المقاطعة بتأجيل موعد إجرائها، وإعلان القوى السياسية والحكومة، وحتى المرجعية، موقفاً واضحاً من السلاح المتفلِّت، متناسياً أنّ مطالبته بالتأجيل تقع في الجهة المقابلة لموقف المرجعية، وأنّ إحراجها بالتدخّل وإعلان موقف مباشر من مسألة تعتبر من اختصاصات مؤسسة الحكومة حصراً، يُعتبر محاولة لجرّها إلى دائرة التدخّل في شؤون إدارة البلاد، وتحويلها إلى طرف مباشر وشريك في التفاصيل، ووضعها في مواجهة القوى والفصائل الأخرى، الأمر الذي سيؤدّي إلى إضعاف دورها الإرشادي.
تنسف شروط الصدر، ودعوته إلى تأجيل الانتخابات لتكون في موعدها الدستوري الطبيعي، مبدأ تشكيل الحكومة المؤقتة بقيادة مصطفى الكاظمي من أجل مهمّة واضحة، على رأسها إجراء انتخابات مبكرة. وهو الأمر الذي ساهم في تظهير انقسام القوى والأحزاب والطبقة السياسية إلى معسكرٍ معارضٍ لهذا التأجيل، وعلى رأسه “دولة القانون” بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، ومعه ائتلاف الفتح الذي يضمّ غالبية القوى السياسية الممثّلة لفصائل الحشد الشعبي والموالية لإيران، لأنّها تعتبر هذه الانتخابات فرصة لتعزيز مواقعها ورفع حصّتها في المقاعد البرلمانية، مع ما يعنيه ذلك من زيادة قدرتها على التأثير في اتجاهات الحكومة المقبلة، ومعسكرٍ مؤيّدٍ للتأجيل توزّع بين مؤيّد بخجل ومرحِّب به، لأنّ هذا القرار يساعد قوى هذا المعسكر في معالجة ما تعانيه من أزمات وتباين في المواقف فيما بينها، والتقليل من اختلافاتها حول مستقبل الشراكة السياسية في الحكومة المقبلة، فضلاً عن إبعاد شبح تراجع تمثيل معسكرها في حال استمرّ الصدر في المقاطعة، وتمسّك بالعزوف عن المشاركة. إذ إنّها ستصبح مكشوفة أمام الآخرين. هذا بالإضافة إلى أنّ التأجيل، الذي بدأت بالترويج له، يصبّ في سياق مطالب الصدر ويشكّل مخرجاً له من الإحراج أمام قاعدته في حال قرّر العودة إلى المشاركة، ويساعده على إعادة ترميم هيبته داخل قاعدته والظهور بمظهر المتحكِّم بالقرار العراقي.
ولعلّ الهدف الأهمّ من تأجيل الانتخابات، أنّه يسمح للتيار الصدري بإعادة تشكيل تحالفاته الانتخابية، والتحوّل إلى حاضن للجماعات التي تدّعي تمثيل قوى “تشرين” المعارضة (الثورة)، وعقد تحالف معهم، والحصول على أكبر عدد من المقاعد البرلمانية، وفرض نفسه الكتلة الكبرى المقرِّرة في تحديد مسارات الحكومة الجديدة التي ستنبثق عن هذه الانتخابات.
القوى التشرينيّة التي يطمح الصدر إلى التحالف معها ووضعها تحت جناحه، والتي يُعتقَد أنّها تمثّل الجماعات المقرّبة أو المحسوبة على رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، سيدفع بها الأخير في المعركة الانتخابية لضمان حصّة له في البرلمان، ولتشكّل رافعةً مع الصدريين وقوى أخرى يلتقي معها في الرؤية السياسية لعودته إلى موقع رئاسة الحكومة من جديد. وتأجيل الانتخابات هو بالدرجة الأولى تمديدٌ لعمر الحكومة المؤقّتة، التي يرأسها، لعدّة أشهر تسمح له بتحقيق بعض الإنجازات الداخلية التي يمكن توظيفها، إلى جانب حراكه الدولي والإقليمي، لفرض نفسه خياراً لا بديل عنه لقيادة العراق في المرحلة المقبلة.