الهروب الأميركي من أفغانستان هزيمة تتبعها هزائم…

 العميد د. أمين محمد حطيط*-البناء

اتخذت أميركا احداث أيلول ٢٠٠١ التي لا تزال تدور الشكوك حولها خلفية وتنفيذا ومخططا وفاعلا، اتخذت أميركا منها ذريعة لتشكيل تحالف دولي بقيادتها لـ «محاربة الإرهاب» الذي تعتمده «القاعدة» لترويع العالم وذهبت أميركا بحلفها الدولي هذا وعماده الأساسي الحلف الأطلسي لاحتلال أفغانستان حيث قيادة «تنظيم القاعدة» (قاعدة الجهاد) الإرهابية ومراكزها وحقول تدريبها التي تعرفها أميركا جيدا منذ ان رعت نشأتها الاولى على أساس ديني وهابي تكفيري واعتمدتها اداة رئيسية لمواجهة المد الشيوعي والاحتلال السوفياتي لأفغانستان.

لقد قررت أميركا احتلال أفغانستان بعد ١٠ سنوات من تفكك الاتحاد السوفياتي في مهمة ظاهرة هي «محاربة الإرهاب» ولهدف استراتيجي أعمق وأبعد وهو إقامة قاعدة اطلسية متقدمة وإرساء نظام سياسي فيها موالٍ للغرب لتحويله الى عنصر إشغال وإزعاج في آسيا الوسطى يحقق لأميركا فوائد ومنافع استراتيجية كبرى في مواجهة كل من إيران وروسيا والصين دون ان نغفل أيضا الهند وباكستان، حث ان الوجود الفاعل للحف الأطلسي في أفغانستان يشكل قاعدة عسكرية اطلسية متقدمة توفر لهم مكاسب استراتيجية دفاعية وهجومية في الان ذاته تفوق بكثير كلفة الجهود والانفاق لتحقيقه. وقد اعتبر معظم الخبراء الاستراتيجيين انّ هذا الوجود يتيح لأميركا تسريع إقامة النظام العالمي الأحادي القطبية خاصة إذا تمكنت بعدها من وضع اليد على بعض أوكل الدول الثلاث إيران والعراق وسورية (وهي احتلت العراق بعد سنتين أي ٢٠٠٣ وحاصرت إيران واعدت الخطط لإسقاط من سورية في العام ٢٠٠٤).

لقد شكل احتلال الغرب لأفغانستان وبقيادة أميركية بعد الانتشار الأطلسي الواسع في الخليج اثر ما اسمي «حرب تحرير الكويت»، شكل تطبيقاً حرفياً لاستراتيجية القوة الصلبة التي اعتمدتها أميركا للإسراع في بسط نفوذها او هيمنتها على العالم اثر تفكك الاتحاد السوفياتي ولكن الميدان الأفغاني لم يستجب للآمال والمخططات الأميركية والأطلسية حيث واجهت قوى الاحتلال مقاومة لم تكن كما يبدو تتوقعها، او لم تكن تتصور نشأتها واستمرارها وفعاليتها، مقاومة شكل تنظيم طالبان عمودها الفقري وطليعتها المتقدمة التي فرضت على أميركا الإقرار بفشل الاحتلال واقنعتها باستحالة البقاء والاستمرار في دفع الثمن الباهظ للمحافظة عليه وبهذا تكون المقاومة الأفغانية نجحت في منع استقرار الاحتلال ومنعت أميركا من تحقيق ما رمت إليه وحالت دون إنتاج البيئة الاستراتيجية والعملانية التي تناسبها لتنفيذ أهدافها في مواجهة دول جوار أفغانستان كما تقدّم أعلاه.

وهنا لا بد من الاشارة الى نجاح الدول الثلاث المستهدفة باحتلال أفغانستان، نجاحها في التقدّم والنمو على أكثر من صعيد استراتيجي او اقتصادي وسياسي وحتى عسكري وميداني في مواجهة المدّ الأطلسي في آسيا الوسطى والى غربي آسيا. وفي ظلّ فشل الغرب في الحرب الكونية التي استهدفت محور المقاومة انطلاقاً من قلعتها الوسطى سورية. نعم نجحت تلك الدول خلافاً لما خططت له أميركا وذهبت الى أفغانستان لتحقيقه. وهكذا شاهد العالم كيف ان الصين حققت النمو الاقتصادي الباهر وتحضرت لأطلاق مشروع « الحزام والطريق «الذي يربطها بالعالم غربا، وكيف ان روسيا تقدمت من البوابة السورية او الميدان السوري لتستعيد موقعها الدولي الذي فقدته بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وكيف ان إيران نجحت مع حلفائها في محور المقاومة من الصمود الدفاعي أولا ثم التوسع ثم فرض معادلات التوزان والردع الاستراتيجي في مواجهة الخصوم والأعداء.

اما على الصعيد الأفغاني الداخلي فإنّ أميركا لم تنجح في إقامة النظام السياسي الموالي الذي يمسك بالبلاد بقدراته الذاتية رغم انها انفقت أكثر من ٩٠ مليار دولار على بناء الجيش كما زعمت ورغم ما انفقت على حربها واحتلالها للبلاد إنفاقا تجاوز الاثني٢ بليون دولار.

أمام هذا الفشل، وامام هذا الثمن الباهظ الذي تدفعه أميركا لاستمرار احتلالها وفي ظل القناعة بالعجز عن إقامة حكومة أفغانية موالية تحمي نفسها بقدراتها الذاتية كان لا بدّ من قرار أميركي بالخروج من أفغانستان، نتيجة وصلت اليها أميركا منذ أربع سنوات ولكن لم يكن بمقدورها تنفيذها يومها خاصة وانّ هناك فشل أميركي كبير اخر تحقق غربي آسيا إثر إخفاق الحرب الكونية على سورية ومحور المقاومة في تحقيق أهدافها، فكان لا بدّ من مخرج تبحث عنه أميركا للخروج الأمن من أفغانستان وبشكل يحفظ ماء الوجه.

وفي بحثها عن هذا المخرج دخلت أميركا مع طالبان في مفاوضات الانسحاب، وهنا لم يكن هم أميركا من المفاوضات من يحكم البلاد ومن يسيطر بل كانت مفاوضاتها من اجل أمرين أساسيين: الاول تأمين الخروج الآمن الذي لا يشكل في مظهره هزيمة استراتيجية، والثاني ضمان عدم تحوّل أفغانستان الى صديق لدول المثلث الاستراتيجي الشرقي الصين وروسيا وإيران ما يشكل إذا حصل انقلاباً مرعباً على الأهداف الأميركية.

اما القول بأنّ المفاوضات التي دخلتها أميركا مع طالبان كانت بغاية نقل السيطرة والمسؤولية اليها لمتابعة ما كان يقوم به الاحتلال الأميركي فإنه قول يفتقد للحسّ الاستراتيجي السليم ويبتعد عن جوهر مجريات الأمور والوقائع. ويجب ان نتذكر دائماً انّ طالبان دخلت المفاوضات بذهنية المنتصر واحتلت مقعده في مواجهة من فشل في تحقيق اهداف عدوانه واحتلاله.

اما في العلاقات الخارجية الأفغانية فيبدو انّ طالبان بعد استعادتها السلطة، لن تكون هي ذاتها طالبان الـ ٢٠٠١، حيث ان ٢٠ عاما من الاحتلال والمقاومة والتعامل السري او العلني مع دول الجوار فرضت عليها مراجعة ذاتية وإعادة هيكلة وصياغة جعلتها تقلع في الداخل عن منطق الاستئثار المطلق بالحكم، كما ودفعتها الى البحث عن صداقة او على الاقل عدم الخصومة والعداء مع دول الجوار خلافا لما ترغب به أميركا. من هنا نفهم المسارعة من قبلها للتواصل مع كل من الصين وروسيا وإيران فضلا عن ابدائها الاستعداد للتعاون في الداخل مع الجميع.

وعليه نقول بان أميركا هزمت في أفغانستان هزيمة مركبة كما يلي:

ـ فشلت أميركا في تحقيق الهدف الظاهر الذي جاءت من اجله وهو الزعم بـ «محاربة الإرهاب» المتمثل بـ «القاعدة» و»طالبان» التي تؤويها وانسحبت لتستعيد طالبان مواقعها في الحكم على رأس البلاد.

ـ فشلت أميركا في بناء دولة أفغانية وفقاً لـ «لديمقراطية الغرب»، كما رغبت.. ولا يحجب هذا الإخفاق ادّعاء الرئيس الأميركي بايدن بأنّ «بناء دولة في أفغانستان لم يكن من مهمة قواته» فمن يراجع التاريخ يجد العكس تماماً.

ـ فشلت أميركا في تحويل أفغانستان الى قاعدة اطلسية متقدمة تشغل دول الجوار وتمنع تطورها الداخلي وتوسعها الإقليمي والدولي ومن ينظر في حال الصين وروسيا وإيران اليوم يجد انها جميعها في حال أفضل بكثير مما كانت عليه قبل احتلال أفغانستان. وبات الهمّ الأميركي اليوم منحصراً بـ «الإسراع في الخروج من أفغانستان» كما قال بايدن.

ـ فشلت أميركا في تقديم الأنموذج الصادق في التحالفات الدولية والعلاقات البينية او حماية العملاء والمتعاونين المحليين معها وهذا فشل جاء متعدد الوجوه من أخلاقية وسياسية وعسكرية حيث ظهرت أميركا أمام الكون انها أنانية لا يعنيها أحد وجوداً وأمناً ومصالح. وأكد بايدن على ذلك بعبارة قاتلة للعملاء حيث قال «لا يُمكن للجُنود الأميركيين أن يموتوا في حربٍ لا ترغب القوّات الأفغانيّة أن تخوضها» مؤكداً انّ أميركا مكوّن لا يعتمد عليه حليف او شريك او تابع، وهي رسالة برسم كل من يتعامل معها في كل المعمورة. وهنا نتوقف عند الصرخة «الإسرائيلية» كما عبّرت عنها صحيفة «معاريف» حيث قالت «تعالوا نعتَدْ على حقبة، سنكون فيها وحدنا في مواجهة إيران، من دون إسناد استراتيجي يرتكز على وجود أميركي مباشر يساند موقفنا ومصالحنا».

ـ أما الهزيمة الأكبر برأينا فهي ما يمكن ان يشكله الهروب الأميركي من أفغانستان على وضع أميركا في العالم عامة وفي الشرق الاوسط خاصة. فالانسحاب من أفغانستان هو حلقة من سلسلة ستتبعها حلقات. ورغم ادّعاء بايدن «ان أفغانستان لا تشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي بل انّ هذا التهديد قائم في سورية والعراق «فإننا نرى انّ هذا قول يُراد منه امتصاص غضب الرافضين للانسحاب والمتخوّفين مما سيليه من انسحاب من سورية والعراق خلافاً للمصالح «الإسرائيلية». رغم ذلك فإننا نؤكد على انّ الخروج من الأميركي من أفغانستان سيشكل محطة رئيسية من محطات المرحلة المقبلة التي سيكون عنوانها بدون شكّ «الانحسار الأميركي وبناء منطقة لأهلها» على أنقاض الحلم الأميركي بناء «شرق أوسط جديد» يكون أميركي الهوية والتبعية. ويبدو ان زعيم الأغلبية الجمهورية في الكونغرس الأميركي فهم جيداً هذه الحقيقة وأطلق صرخته مستنكراً الانسحاب الهزيمة قائلاً بأنّ «هذا الانسحاب عار لحق بأميركا«.

_ أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي
Exit mobile version