“نيويوركر” تسأل وتجيب: كيف فشلت أميركا في أفغانستان؟

ترجمة منى فرح

 إسحاق شوتينيير، الكاتب في صحيفة “نيويوركر”، قسم “سؤال وجواب”، أجرى مقابلة هاتفية مع زميله ستيف كول، عميد كلية كولومبيا للصحافة وأحد أبرز كتَّاب “نيويوركر”، بشأن الوضع في أفغانستان، علماً أن كول هو مؤلف كتابي “حروب الأشباح ( Ghost Wars) و”مديرية S” اللذين يسردان الكثير عن عقود طويلة من تاريخ أفغانستان وباكستان. وفي ما يلي أهم ما دار من نقاش بين الإثنين:

شوتينيير: هل فاجأتك الأحداث التي حصلت خلال الأسابيع القليلة الماضية، وما النتيجة التي كنت تتوقعها بعد إعلان بايدن في نيسان/أبريل عن سياسته القاضية سبحب القوات الأميركية من أفغانستان بحلول أيلول/سبتمبر 2021؟

ستيف كول: أعتقد أن السُرعة التي انهار فيها الوضع السياسي العام في أفغانستان فاجأت الكثير من الناس. ومع ذلك أقول إن مسار الانهيار هذا كان متوقعاً ويمكن التنبؤ به. لقد حدث هذا في التاريخ السياسي والعسكري الأفغاني عدة مرات من قبل. لكن هذه المرة كانت هناك سرعة وزخماً إستثنائيين لدى الناس في إعادة حساباتهم وتقييم مصالحهم وتغيير تموضعهم، وكذلك الإستسلام من دون أي أعمال عنف. ولا أعتقد أن إدارة بايدن كانت تتوقع كل هذا عندما أعلنت في الربيع الماضي جدولها الزمني للإنسحاب.

بإمكانك أن تجادل بأن هذا يُظهر أن سياسة إدارة بايدن كانت على خطأ، ولكن بإمكانك أيضاً أن تُجادل بأنه إذا كان هذا سيحدث وبهذه السرعة بعد عقدين من تواجد القوات الأميركية في أفغانستان، فلا توجد طريقة أخرى لإنقاذ الوضع دون التعهد بالبقاء في البلاد مدى الحياة. كيف تفكر في وجهتي النظر هذه تجاه الموقف، أو هل تعتقد أن التباين في وجهات النظر هنا ليس مفيداً؟
بين وجهتي النظر المذكورتين، كانت، وإلى حد ما، السياسة المتبعة منذ الولاية الثانية لإدارة باراك أوباما – والتي كانت تعتمد أسلوب الإنتشار الضيق ولكن المُستدام. كان هناك 2500 جندي في أفغانستان عندما تولت إدارة بايدن السلطة. وكان معدل الإصابات التي تكبدتها كل قوات “الناتو” يعادل تقريباً الإصابات التي تسببت بها حوادث السير خلال العامين الماضيين. لذلك، تم النظر في خيار الانتشار المُستدام والصغير المرتبط بالبحث عن بعض النتائج السياسية الأكثر استدامة. وهذا لم يكن مجانياً، ولكن بالطبع لا يشبه النفقات الضخمة التي كانت في الماضي. إدارة ترامب أيضاً اتبعت هذا المسار، أخذته عن إدارة أوباما، وأصبح البيت الأبيض في عهد ترامب طموحاً للغاية بهذا الشأن. لقد تفاوض مع طالبان على اتفاقية لها جدول زمني، بما في ذلك كل ما يتعلق بالانسحاب الأميركي. وحتى وصلت إدارة ترامب إلى تلك النقطة، كانت تتبع المسار ذاته الذي سلكته الإدارة السابقة (إدارة أوباما). بين القطبين (وجهتي النظر) تبرز مسألة ما إذا كانت فوائد حد ما من الاستقرار حتى لو كان فوضوياً تبرر الإنتشار الصغير والمتوسط للقوات الأميركية الموجودة في أجزاء أخرى من العالم. هذا ما سوف نسمعه في واشنطن. الحُجة المضادة لسياسة إدارة بايدن لن تكون حرباً إلى الأبد وهزيمة طالبان، بل ستكون انتقاداً للتسرع الذي سحبت به “القابس” عن ما لم يكن انتشاراً كبيراً، والذي لم يكن يُكبد الكثير من الضحايا.

كارثة إنسانية جديدة ستجتاح المدنيين الأفغان وسيكون لها عواقب سياسية تطال الغرب عموماً.

لماذا، في نهاية المطاف، كان من الصعب جداً على أميركا مساندة الجيش الأفغاني أكثر مما فعلت؟ هل كانت تفتقر إلى الشرعية السياسية؟ هل واجهت مشاكل في تدريب الجيش الأفغاني؟
لا أعرف كل العوامل والأسباب التي يجب أن نعتمدها، ونسبة تأثير كل منها، بما في ذلك تلك التي ذكرتها. لكنني أعتقد أن السبب الإضافي الوحيد لعدم نجاحها (أميركا) هو حجم التوقعات التي كانت لديها وسقف الطموح الذي وضعته لهذا الأمر (إعداد الجيش الأفغاني). كان هذا واضحاً في العراق أيضاً. إن بناء جيش مُحترف وقوي ومتماسك، قوامه ثلاثمائة ألف جندي، في بلد مزقته أكثر من أربعين سنة من الحروب المتتالية، ويعتمد اقتصاده بشكل شبه كامل على المساعدات الخارجية – لا يمكن أن ينجح. ربما اعتقد البعض، في مرحلة ما، أن بناء قوة أقوى وأكثر تماسكاً وأفضل تدريباً، والتي كانت فعلياً القوة القتالية الحقيقية الوحيدة لحكومة كابول على مدى السنوات القليلة الماضية. وأقصد هنا القوة التي كان يُشار إليها باسم “الكوماندوز” أو “القوات الخاصة”، وهي قوة كانت تتألف من حوالي عشرين أو ثلاثين ألف عنصر فقط. قد تستطيع تدريب قوة محددة والإستثمار فيها، لكن لا يمكنك إنشاء جيش قوامه ثلاثمائة ألف عنصر. أتذكر أنني تحدثت إلى جنرالات باكستانيين حول هذا في عام 2012. وقد قالوا لي جميعهم ما معناه: “لا يمكنك فعل ذلك. الأمر لن ينجح”. ولقد اتضح أنهم كانوا على حق.

الكاتب أناند غوبال، الذي عمل مراسلاً بأفغانستان وعلى نطاق واسع، كتب يقول: “لقد صممت الولايات المتحدة الدولة الأفغانية لتلبية مصالح واشنطن في مكافحة الإرهاب، وليس مصالح الأفغان، وما نراه اليوم هو النتيجة”. هل توافق؟
أفترض أن ما يعنيه ذلك هو أن مشروع بناء الدولة، كما كان مقرراً – والذي كانت هناك درجات متفاوتة من الالتزام بشانه، بما في ذلك القليل جداً من الإلتزام في البداية، أي بعد سقوط حكومة طالبان الأخيرة – هذا المشروع قد تم تقويضه بسبب الاعتماد على الميليشيات والقادة المستقلين الذين كان يُنظر إلى دورهم في الأمن على أنه ضروري، لا سيما في وقت مُبكر. لأن أجندة حلف “الناتو” الرئيسية بقيادة الولايات المتحدة في أفغانستان والمنطقة كانت مكافحة الإرهاب. كان يُنظر إلى العناصر المسلحة – “سماسرة السلطة” أو أمراء الحرب – على أنهم “ضرورة” لا بد من وجودهم من أجل تنفيذ تلك الأجندة وإنجاحها. وكان من الصعب جداً بناء دولة طبيعية في وقت كانت الميليشيات خارج نطاق المساءلة السياسية وتهيمن على العديد من مناطق البلد (ناهيك عن مسألة سيادة القانون). بمرور الوقت، كان هناك اعتراف بأن هذا لم يكن وضعاً مُستداماً، وكانت هناك جهود لمحاولة دمجهم (الميليشيات) في دولة أكثر طبيعية وجيش دستوري. ولكن ذلك المشروع لم يكن مصحوباً أبداً بضغط من أجل المساءلة ووضع حد للفساد المرتبط بتلك الميليشيات وغير ذلك. أفترض أنه بالإمكان القول إن هذا كله كان خطأ في التصميم الذي اتبعه الغرب، لكنني لست متأكداً من أنني أصدق ذلك. كانت تلك الميليشيات المقاتلة متواجدة على الأراضي الأفغانية في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) بسبب الحرب التي كانت دائرة هناك منذ الغزو السوفيتي في عام 1979، ولم تتطلب قراراً دستورياً تمليه الولايات المتحدة. وهم بالطبع، استمروا. إن التعقيد الحقيقي الخاص بتصميم الدولة الأفغانية التي تنهار الآن له علاقة أيضاً بالأفغان القادمين إلى البلاد من المنفى – وهي الديناميكية ذاتها التي رأيناها في العراق. في كثير من الأحيان، حاول أشخاص موهوبون وملتزمون جداً- أجبرتهم حروب أواخر السبعينيات على مغادرة البلاد- المساومة مع القادة في أفغانستان حول نوع النظام الدستوري ونظام تقاسم السلطة الذي ينبغي تصميمه. كانوا يحاولون إنشاء نظام من شأنه أن يستوعب قوة الميليشيات في بنيان دستوري شديد المركزية.

لوم جو بايدن الشعب الأفغاني هو تهرب من المسؤولية وسلوك شائن وغير مبرر

موقف الرئيس بايدن تجاه أفغانستان أزعج كثيرين مؤخراً، مع أنه في الوقت نفسه يركز وبشدة على حاجة الأفغان للوقوف والقتال من أجل بلدهم. ما هو شعورك حيال هكذا طرح من رئيس أميركي بعد أن كانت قوات بلاده منخرطة في كل تفاصيل الوضع بشكل وثيق ولعقود من الزمن؟
أحاول أن أخمد مشاعري حيال ذلك. أستطيع أن أتفهم الإحباط الذي كان يشعر به صُناع القرار الأميركيين مع شركائهم في حكومة كابول على مدار العشرين عاماً الماضية. لقد كان طريقاً وعراً للغاية، وليس كل ما حدث كان نتيجة أخطاء ارتكبها رؤساء الولايات المتحدة ونوابهم ومستشارو الأمن القومي. لكن الإيحاء بأن الشعب الأفغاني لم يقم بواجبه هو تهرب من المسؤولية ونوع من إلقاء اللوم على الطرف الآخر. وأنا أعتقد أن مثل هذا السلوك أو “التكتيك” ليس فقط غير مبرر بل وشائن أيضاً. لقد عانى الأفغان على مدى أجيال – جيلاً بعد جيل – ليس فقط من الحروب المتتالية والأحداث المتواترة بل وأيضاً نتيجة الأزمات الإنسانية، الواحدة تلو الأخرى. وعلى الأميركيين أن يتذكروا أن كل هذه المعاناة والويلات والصعوبات الجمَّة التي تكبدها الأفغان لم تكن نتيجة حرب أهلية بدأوها في ما بينهم وانغمس فيها بقية العالم.. هذا الوضع المزري الذي يرزح تحته الأفغان هو نتيجة أكثر من غزو خارجي. بداية عندما احتل الاتحاد السوفيتي السابق أفغانستان إبان الحرب الباردة. لقد أصبحت البلاد منذ ذلك الحين ساحة معركة للقوى الإقليمية والعالمية التي إدعت أنها تسعى إلى أمنها من خلال التدخل عسكرياً في أفغانستان: الولايات المتحدة الأميركية بعد عام 2001، وقبل ذلك وكالة الإستخبارات الأميركية المركزية CIA في ثمانينيات القرن الماضي، وباكستان من خلال دعمها الأول لـ”المجاهدين” ولاحقاً لحركة طالبان، وإيران وعملائها.. إلخ. إن إلقاء اللوم على الأفغان لعدم تمكنهم من توحيد جهودهم في ضوء كل ذلك التاريخ من الغزوات والتدخلات الخارجية هو أمر خاطئ تماماً.

بجوار أفغانستان، في ما يُعرف اليوم بباكستان، مكث البريطانيون لفترة طويلة جداً ثم غادروا فجأة في عام 1947، مما أدى إلى إراقة الكثير من الدماء بشكل لا يُصدق. هل ترى عودة إلى ذلك العصر الإمبراطوري، بمعنى أن القوى الخارجية تريد أن تغسل يديها وتتبرأ من الوضع وبالتالي هي تصر على الإنسحاب من الساحة دون أي اعتبار أو اهتمام كبير بكيفية هذه المغادرة؟

أنا أتفق معك في ذلك. هناك الكثير لنتعلمه، وإنصافاً لإدارة بايدن نقول إنها ورثت عن إدارة ترامب موقفاً عسيراً بسبب التنازلات التي قدمتها لطالبان، خصوصاً بشأن توقيت إنسحاب القوات الأميركية. لقد سبق وقلت إن إعادة إنتشار الجنود الذي نفذه بايدن كان صغيراً، والعنف الذي واجهوه يكاد لا يُذكر. ولكن هذا كان ممكناً بسبب شروط الصفقة المعيبة التي تفاوضت عليها إدارة ترامب مع طالبان، والتي تنص على أن تتعهد طالبان بعدم مهاجمة القوات الأميركية مقابل وضع الأخيرة موعداً نهائياً لإنسحاب آخر جندي من جنودها في أيار (مايو) من هذا العام. لذلك، عندما قامت إدارة بايدن، في الأسابيع الأولى من ولايتها، والمليئة بالضغوط، بمراجعة الوضع في أفغانستان، فهي كانت في الوقت نفسه تخشى من أنه إذا حاولت التنصل من الاتفاق الذي توصلت إليه إدارة ترامب مع طالبان أو حاولت إعادة جدولته، فقد يؤدي ذلك إلى تغيير الوضع الهادئ نسبياً، وتحويل تجربة مستقرة للجيش الأميركي إلى جولة دموية أخرى من القتال من شأنها أن تقوض خطط الإدارة وأولويات السياسة الخارجية. لذا فقد سحبت “القابس” وحصلت على هذه النتيجة بالضبط، والتي يتحدث عنها الجميع. لكن، وبالعودة إلى ملاحظتك الأصلية، أعتقد أن التسرع واللامبالاة، وإلقاء اللوم على الأفغان، والربط بين قرار تضييق المصالح الأميركية والذكرى السنوية لأحداث 11 أيلول (سبتمبر)، هو تعجرف وازدراء. ومصطلحا “تعجرف” و”إزدراء” قد لا يكونا كافيين لوصف تفكير الأميركيين بكيف ستكون عواقب كل ذلك على أفغانستان. قرارات إدارة أوباما، ومن ثم قرارات إدارة ترامب في العامين الأولين من ولايتها، تعكس إجماعاً سياسياً نادراً في الولايات المتحدة على وجود استعداد للحفاظ على نشر محدود للقوات وتقليص النفقات في أفغانستان من أجل تأمين مسار للخروج من هناك بشرط أن لا يؤدي إلى ما نشاهده الآن. ويبدو أن الرئيس بايدن نفسه قرر شخصياً أن تلك كانت مهمة حمقاء، وأنه لن يصر على ما اعتبره أوهاماً حول هذا النوع من البحث. وفي الواقع، لم تكن هناك أي أزمة في الإنفاق، ولا حرب تتطلب مثل هذا القرار السريع في الإنسحاب – وفق المنظور الأميركي كانت.

حسناً، ولكن ألا تشير السرعة أو التسرع بالإنسحاب إلى أن طالبان لم تكن أبداً لتتفاوض على شيء بحسن نية ومن أجل حلٍ طويل الأمد؟

من المؤكد أنه يشير إلى أن طالبان لم تكن جادة بشأن تقاسم السلطة مع أحد على الإطلاق بالطريقة التي كانت تأمل بها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون والعديد من قطاعات الحكومة الأفغانية والمجتمع الأفغاني. لكن المشكلة لم تكن في الإيمان الساذج بأن طالبان قلَّلت من عدم رغبتها في تقاسم السلطة، لأنها لم تفعل ذلك. جماعة طالبان كانوا عنيدين جدا وبشكل رهيب طوال فترة المفاوضات. لقد رفضوا حتى التحدث إلى الحكومة الأفغانية لأسباب أيديولوجية بحتة تتعلق بالشرعية التاريخية. لذا، لم يكن هناك سبب للقول إن طالبان اجتازت اختبار الدبلوماسية الدولية الموثوقة، مع أنهم كانوا يشاركون في المحادثات ويقولون ما لديهم. كان الأمل أنه بمرور الوقت ممكن أن ينجذبوا تدريجياً إلى اللاعنف وترك كل المظاهر والطموحات الثورية التي طبعت تاريخ طالبان، وأن يركزوا تفكيرهم على المستقبل السياسي لأفغانستان. ولكن هل هذا ما سيحدث؟ انظر إلى المفاوضات التي جرت مع القوات المسلحة الثورية في كولومبيا. كم من الوقت استمرت تلك المفاوضات؟ عشرون عاماً؟ حتى الآن، لا تزال النتيجة فوضوية. هذه ليست مفاوضات تؤدي عادة إلى اتفاق سريع. كنَّا نتوقع أن تكون عملية بطيئة للغاية. ما كان معيباً في اتفاق إدارة ترامب مع طالبان لم يكن بالضرورة سوء فهم للأخيرة، ولكن الجدول الزمني الذي حدَّدته. الإدارة الأميركية استغلت المفاوضات بشكل أساسي كغطاء لسحب قواتها من أفغانستان وقبل أن تحقق أياً من الأشياء التي قالت إن المفاوضات تهدف إلى تحقيقها.

لكن هل هناك أي إشكال بين القول، بشكل أساسي، أنه من ناحية فإن نشر قوات في أفغانستان لم يكلفنا الكثير من الخسائر في الأرواح في صفوف الأميركيين، ومن ناحية أخرى نجحنا في منع طالبان من قتل المزيد من الأميركيين فقط لأننا وعدناهم بالمغادرة؟ هل كان من الممكن أن نحافظ على هذا التوازن إذا لم نعد بالإنسحاب؟
كان معدل الضحايا الأميركيين منخفضاً حتى قبل موافقة طالبان على وقف شن هجمات ضد الأميركيين. هذا لا يعني أن كل خسارة لم تكن مؤلمة ولها تداعياتها، ولكن التغطية الإعلامية لمعدل الضحايا الذين كانوا يسقطون في أفغانستان تراجعت كثيراً في دورة الأخبار. الانكفاء الإعلامي عن ما كان يحدث هناك بدأ تقريباً في عام 2015 أو 2016، عندما انخفض عدد القوات الأميركية التي كانت منتشرة إلى نحو عشرة آلاف جندي فقط. المشكلة في الاستدامة خارج المفاوضات كانت الطريقة التي كانت تجري بها محاكمة الحرب بعد سحب قوات “الناتو”؛ أساساً، كانت حرباً جوية مرتبطة بالقوات الخاصة على الأرض. السؤال الأصعب حول سياسة الوسط هذه هو إلى متى يمكن الإستمرار في قصف طالبان من أجل إخضاعها؟ كان سبب الجمود العسكري منذ عام 2006 تقريباً حتى هذا الصيف هو أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، بما في ذلك القوات الأفغانية على الأرض، كان يحتكر القوة الجوية، ولم يكن لدى طالبان أي سلاح دفاع ضد القوة الجوية. لكن بطبيعة الحال، فإن القصف في بلد مثل أفغانستان لا يمكن أبداً أن يصيب الأهداف بدقة.. هناك ضحايا مدنيون كثير، وشعور بالحصار في بعض المناطق التي تم استخدام القوة الجوية فيها. إلى متى سيكون هذا هو الجواب؟

تشير كُتُبك عن المنطقة إلى أن طالبان ربما لم تكن لتصل إلى السلطة في الأساس، ولم تكن لتنجو كل هذه المدة الطويلة لولا المساعدة والتسهيلات التي قدمها لها جهاز الأمن الباكستاني – أجهزته العسكرية والاستخباراتية. ما هو موقف باكستان حيال ما يحدث الآن؟ أعتقد أن هناك قلقاً أكبر من المُعتاد حول ما قد تعنيه الأحداث المستجدة بالنسبة لباكستان.

يبدو أنه من المحتمل أن الأمر يتعلق جزئياً بمشاهدة ما تتمناه. أنا متأكد من أنهم (باكستان) لم يتوقعوا السرعة التي تكشفت بها الأحداث هذا الصيف، وربما توقعوا أيضاً أن دور المفاوضات والجدول الزمني للتغيير السياسي الذي سيحدث في أفغانستان سيسمح لهم ببناء منصة لشرعية دولية أكبر وضمان مصداقية حكومة طالبان المحتملة. أحد الأسباب التي تدفعني لأكون قلقاً فيما لو كنت مكان الباكستانيين هو أن هذا يحدث بطريقة تحفز بالفعل حكومات مثل الحكومة الألمانية- عادة لا تكون أول من يفكر خارج الصندوق- للقول إنهم لن يقدموا أي مساعدة لحكومة تفرض “حكم الشريعة” ضد إرادة شعبها. زلماي خليل زاد، مفاوض بايدن، يحاول إخبار طالبان بأنه لن يعترف بهم أي شخص إذا استولوا على السلطة بهذه الطريقة. حسناً، سنرى. في التسعينيات، لم يكن هناك سوى ثلاث حكومات في العالم اعترفت بطالبان: باكستان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وهذه المرة أيضاً، أتوقع أن باكستان ستكون من الذين سيعترفون بسلطة طالبان. لكن الأمور الآن مختلفة. السعوديون والإماراتيون لديهم نظرة جيوسياسية جديدة. والصين ليست كما كانت في التسعينيات. كيف ستدعم الصين باكستان في محاولتها التعامل مع نظام طالبان الثاني، خاصة إذا ما قرر هذا النظام تنفيذ عقوبات وأنواع أخرى من الضغط على الولايات المتحدة وحلفائها؟ صحيح أننا لسنا في زمن التسعينيات، لكن باكستان لا تزال في المكان المُحرج ذاته الذي كانت عليه في المرة السابقة. وبإنتظار أن تنضم طالبان إلى نوع من “الأممية” وسياسة تعاون دولية في تفسيرها للإسلام، وتبدأ الترحيب بفصائل تنظيم القاعدة وغيرهم من الجماعات المتطرفة، وتسمح لتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) .. وما إلى ذلك، عندها بالإمكان التأكد من أنه وكما فعلت في المرة السابقة، سوف تُفجر كل شيء بوجه باكستان بطريقة أو بأخرى، سواء كان ذلك في شكل ضغط دولي أو عدم استقرار.

الوضع المزري الذي يرزح تحته الأفغان ليس نتيجة حرب أهلية بدأوها فيما بينهم وانغمس فيها بقية العالم.. بل نتيجة الغزوات والتدخلات الخارجية

كيف ترى الأمور ستكون في الشهر المقبل؟
من المهم أن يدرك المجتمع الدولي أن أفغانستان تدخل في أزمة إنسانية أخرى مدمرة ومن النوع الذي شهدته مرات عديدة من قبل: ستشهد المزيد من موجات تدفق اللاجئين، وانعدام الأمن في المناطق التي استولت عليها طالبان، وعدم اليقين بشأن كيفية تعامل طالبان مع احتياجات الناس هناك.. فليس واضحاً بعد كيف ستتعامل طالبان مع أعدائها- هل ستكون هناك إعدامات جماعية أو اعتقالات؟ أضف إلى هذا وذاك الأزمة التي تشكلها جائحة كورونا، والتحديات الإنسانية التي تشهدها المناطق الريفية في أفغانستان والتي كانت موجودة بالفعل قبل هذا الصيف.. أنت تنظر إلى موسم مُظلم حقاً بالنسبة للسكان الأفغان. لا أتوقع أن تغير إدارة بايدن سياستها، وحتى لو فعلت، لا أتوقع أن تتمكن من كبح زمام طالبان بدون قصف أفغانستان وتحويلها إلى قطع صغيرة. لكن بالتأكيد تستطيع إدارة بايدن أن تتحمل نصيب الأسد من المسؤولية المطلوبة تجاه الأزمة الإنسانية التي بدأت تتكشف. ففي النهاية الإستجابة لمعالجة الأزمة الإنسانية فيها مصلحة ذاتية، لأنه إذا بدأت موجة جديدة وكبيرة من اللاجئين تنزح من أفغانستان نحو أوروبا- كما يُتوقع-  فسيكون لذلك عواقب سياسية تؤثر على الغرب عموماً وبشكل خاص.

Exit mobile version