الكاتب: ملاك عقيل
يَكشف حجم الكميّات المُصادَرة من البنزين والمازوت في المناطق من قبل الجيش والقوى الأمنيّة في الأيام الماضية عن أمريْن أساسيّين:
الأول: تأخّر التدخّل الأمنيّ للَجم المُحتكرين ووضعهم عند حدّهم، ليس من باب التقصير بقدر غياب الإدارة السياسية للأزمة الذي ينعكس مباشرةً على الأداء الأمنيّ على الأرض. ثمّة شبكة عنكبوتية تبدأ من الشركات المستورِدة للنفط إلى موزّعي المحروقات فالمحطّات فـ”عصابة” المُحتكِرين، بكلّ أزلامها، وصولاً إلى أصحاب مولّدات الكهرباء، وعلى رأس كلّ هؤلاء سياسيّون “يطنّشون أو يغطّون” ارتكابات تكاد تشكّل كارثة إنسانية حقيقية. فهل مسؤولية تفكيك هذه الشبكة تعود إلى القرار السياسي والإدارة السياسية للأزمة أم هي من مهام العسكر؟
وفق متابعين فإنّ “جميع الإجراءات الاستثنائية التي يتمّ اتّخاذها عبر المجلس الأعلى للدفاع على شكل “توصيات وطلبات” لا تغطي إطلاقاً على “جريمة” التقاعس عن إيجاد حلّ سياسي للأزمة، وبوّابته الإلزامية تأليف حكومة”
وإذا ما تمّ استثناء حفنة من الأمنيّين، ضبّاطاً وعسكراً، هم شركاء في التواطؤ وتغطية المُحتكرين والمتاجرين بالأرواح وحماية المهرّبين إلى سوريا، فإنّ الجسم العسكري بكامله هو ضحية أيضاً. والدليل كارثة الانفجار في التليل بعكار حيث تبيّن وجود عدد من الضحايا العسكر الذين كانوا في موقع الكارثة ليس في مهمّة عسكرية، بل طلباً لتنكة بنزين مجّانية. والأفظع أنّ الجيش كان عاجزاً فعليّاً عن ضبط حالات الاحتقان في بقعة منسيّة من الأساس، ولا تحضر على أجندات كبار مليارديرات الشمال إلا في زمن الانتخابات. حرفيّاً، يمكن القول إنّ العسكر اليوم بكلّ أسلاكه يُنفّذ المهامّ الموكَلة إليه ببطون خاوية وجيبة تحوي أوراقاً نقدية لا تكفي لشراء عبوة حليب أطفال!
الثاني: تأمين المجلس الأعلى للدفاع في جلسته الأخيرة “التغطية” الصريحة لتنفيذ المداهمات والتوسّع فيها عبر كسر “المحرّمات” المناطقية. تقول مصادر المجلس الأعلى لـ”أساس”: “خلافاً لِما أشيع، فإنّ الطلب من القوى الأمنيّة مراقبة مصادر الطاقة ليس بمنزلة إعلان لحالة الطوارئ، بل هو تأكيدٌ لوجود تغطية من “المجلس” لكلّ ما من شأنه فضح المرتكبين والتخفيف من وطاة أزمة المحروقات وتسهيل وصولها إلى المواطنين”.
وكان بيان المجلس الأعلى يوم الأحد أشار في أحد بنوده إلى “تكليف القوى العسكرية والأمنيّة والشرطة البلدية فرض الرقابة على مصادر الطاقة، وتنظيم توزيعها على جميع الأراضي اللبنانية، وذلك لمدّة شهر واحد، أي إلى 15 أيلول، والعمل على تفريغ وإقفال جميع المستوعبات المخصّصة لتخزين الوقود المخالفة للأصول والأنظمة المرعية الإجراء”.
وفي حين طُرِح السؤال عن سبب تحديد شهرٍ واحد لأزمة مُستعصية تحتاج إلى وقت طويل لحلّها، توضح المصادر: “لا شئ يمنع من تمديد المهلة إذا اقتضى الأمر ذلك. وقد لفت قائد الجيش خلال الاجتماع إلى أنّ ما يطلبه المجلس الأعلى هو ما يقوم به الجيش أصلاً. مع ذلك، حَرِص المجلس الأعلى على تأكيد وجود تغطية كاملة لأعمال المصادرة والمداهمات في كل المناطق”.
لكن وفق متابعين فإنّ “جميع الإجراءات الاستثنائية التي يتمّ اتّخاذها عبر المجلس الأعلى للدفاع على شكل “توصيات وطلبات” لا تغطي إطلاقاً على “جريمة” التقاعس عن إيجاد حلّ سياسي للأزمة، وبوّابته الإلزامية تأليف حكومة”.
يضيف هؤلاء: “أخبار الحكومة مُحبِطة لدرجة كبيرة، وتشكّل دليلاً قاطعاً على حجم الهوّة بين قوى السلطة و”المنكوبين” من جرّاء أفعالها. واليوم ثقل هذا الفشل الذريع في إدارة الأزمة على المستوى السياسي يقع فقط على كاهل القوى الأمنيّة المُستنزَفة بالكامل”.
فيما تؤكّد المعطيات وجود رعاية سياسية وحزبية لمقتحمي المحطات، خصوصاً في مناطق نفوذ حركة أمل، تشير مصادر أمنيّة إلى أنّ “القوى الأمنيّة تبذل كلّ ما بوسعها لوقف هذه التعدّيات
وهذا بالتحديد ما يكبّر حجر المخاوف لدى مرجعيات بارزة من أن يُحمَّل الجيش في المرحلة اللاحقة ما لا طاقة له على تحمّله حتّى لو أغرِقَ بالمساعدات من المجتمع الدولي في ظلّ الكوما القائمة لدى أهل الحكم وغياب المؤشّرات عن قرب الانفراج السياسي.
وأحد أبشع مظاهر الفلتان، الذي يذكّر بحكم “الميليشيات”، ما يحدث حالياً من سيطرة على بعض محطات الكهرباء في المناطق، وفرض أمر واقع بتحويل الكهرباء إلى مناطق سكنية معيّنة، وتغذيتها بها لفترة تصل إلى 12 ساعة يوميّاً.
وقد بات هذا المشهد يكمّل مشاهد أكثر نفوراً: فمن أجل الحصول على تنكة بنزين أو مازوت أو جرّة غاز أو دواء مقطوع، لا بدّ من الاستعانة بمفاتيح مرتبطة بشبكة “ميليشياوية” باتت تُحكِم السيطرة على أنفاس اللبنانيين… وكلّها بسعر السوق السوداء. أمّا ما حصل في الكفاءات أمام محطة جبل عامل فيشكّل جرس الإنذار الأخير قبل الدخول في المحظور وتكريس الحكم الميليشيوي.
وكانت مؤسسة كهرباء لبنان قد أصدرت السبت بياناً تحذيرياً أكّد أنّ “العديد من محطات التحويل الرئيسية في مختلف الأراضي اللبنانية تتعرّض بشكل متكرّر ويوميّ للاعتداءات من قبل بعض المواطنين، الذين يدخلون إليها ويعتدون على المناوبين والعاملين فيها، ويرغمونهم على إعادة التيار الكهربائي عنوةً على مخارج التوزيع، ولا سيّما في محطات الحرج، البسطا، بيت ملات، صور، صيدا، بعلبك، المصيلح، الزهراني ووادي جيلو”.
ولفتت إلى أنّ “المعتدين أجبَروا منذ الخميس الماضي المُناوبين في محطات صور، وادي جيلو، السلطانية، المصيلح والزهراني على تغذية مخارج التوزيع فيها على أساس 12 ساعة في اليوم”، طالبةً المؤازرة من القوى الأمنيّة.
ثمّ أصدرت بيانين يوم الأحد أعلنت فيهما انقطاعاً شاملاً ومتكرّراً للتيار الكهربائي عن كلّ الأراضي اللبنانية وخروجها عن الشبكة: “وذلك عائد إلى انخفاض الذبذبة إلى مستوى متدنٍّ جداً جرّاء التجاوزات في محطات التحويل الرئيسية الخارجة عن سيطرة المؤسسة بسبب التعدّيات الحاصلة عليها”. وحتّى الآن لا يزال جزء من محطات التحويل الثماني خارج السيطرة. وتفيد معلومات أنّ أفراداً اقتحموا محطات في الطريق الجديدة والروشة، وتولّى الجيش إخراجهم منها.
وفيما تؤكّد المعطيات وجود رعاية سياسية وحزبية لمقتحمي المحطات، خصوصاً في مناطق نفوذ حركة أمل، تشير مصادر أمنيّة إلى أنّ “القوى الأمنيّة تبذل كلّ ما بوسعها لوقف هذه التعدّيات، ومنها محاولات قطع الطريق والاستيلاء على صهاريج المازوت والبنزين، لكنّ ما لا يريد أن يعترف به البعض هو أنّ محطات الكهرباء باتت خالية تقريباً من الفيول، والمخزون يكفي لثلاثة أو أربعة أيام بسبب توقّف الاستيراد غداة قرار رفع الدعم وعدم فتح اعتمادات لاستيراد كميّات جديدة… وعند اكتمال معالم الفوضى والعتمة الكاملة مع إطفاء المعامل وفقدان المازوت المشغِّل للمولّدات ولكلّ شرايين الحياة يُفترض أن تكون السلطة واعية لحجم الكارثة التي سبّبتها، والتي قد تنتج جزراً أمنيّة وقوى أمر واقع في الأطراف امتداداً إلى عمق العاصمة”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع