استخدمت منظومة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلية أدوات القمع، المادية والمعنوية المختلفة، كوسيلة للسيطرة على، والتحكّم في، حياة الفلسطينيين بشكل مادي فجّ، وبشكل آخر ناعم، منذ احتلال فلسطين عام 1948، كما استدمجت على مدار عقود طويلة من الاحتلال الوسائل الحديثة، لا سيّما التكنولوجية منها، لإدامة احتلالها وسيطرتها واستباحة حياة الفلسطينيين، كجزء من محاولة إخضاعهم والسيطرة عليهم. ولجأت خلال السنوات الماضية إلى الاعتماد أكثر على الوسائل التكنولوجية في عمل أجهزتها المخابراتية لمراقبة الفلسطينيين بشكل مرئي وعبر الإنترنت لأهداف عدّة تتراوح ما بين استعراض “القوة الإسرائيلية الخارقة” وإسقاطات ذلك على الوعي الفلسطيني؛ وتسويق هذه الوسائل والتقنيات عالمياً بعد أن حولت الأراضي المحتلّة إلى حقول تجارب لتقنياتها العسكرية والأمنية التي تبيعها للأنظمة القمعية حول العالم؛ لكنها وبكل تأكيد تعبير عن حالة الخوف والقلق الدائمة التي تعيشها المنظومة الاستعمارية في إطار مساعيها لإدامة مشروعها الاستعماري.
“التعرّف على الوجه”: تقنية جديدة مُدمجة بنظام التحكّم والسيطرة الإسرائيلي لاستباحة حياة الفلسطينيين!
الكاتب: عبد القادر بدوي
سنحاول هنا تسليط الضوء على قضية أُثيرت مؤخّراً، وهي استدماج المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية لتقنية “التعرّف على الوجه” في وسائل القمع المستخدمة ضد الفلسطينيين، ولا سيّما في الأراضي المحتلّة عام 1967.
في أيلول الماضي، قدّمت “جمعية حقوق المواطن في إسرائيل” التماساً إلى المحكمة المركزية في القدس، طالبت من خلاله بضرورة قيام الشرطة والجيش بتقديم معلومات تتعلّق باستخدامهما لتقنية التعرّف على الوجه “Facial Recognition Technology” من خلال كاميرات المراقبة المنتشرة في أنحاء متفرقّة من القدس (بما في ذلك القدس الشرقية)، بعد أن رفضت الشرطة والجيش تقديم توضيح حول القضية بحجّة أن ذلك “يُعرّض أمن الدولة للخطر”، وترى الجمعية، أنه وعلى الرغم من أن الاستخدام- المحدود والخاضع للرقابة- لهذه التقنية يعود بالفائدة على “المصلحة العامة” ويُحسّن من أداء الشرطة، إلا أن استخدامها من دون علم الجمهور الإسرائيلي وغياب النقاش العام حول ذلك، يمسّ بالمبادئ الديمقراطية والحرّيات، خاصّة إذا كان هذا الاستخدام على نطاقٍ واسع، وغير خاضع لإشراف ومراقبة، كما ورد في الالتماس المُقدّم للمحكمة الذي سُرعان ما تم شطبه بناءً على توصية المحكمة.
منذ سنوات، وبالتحديد منذ عام 2014 الذي شهد انتفاضة فلسطينية على شكل مئات العمليات الفردية، أعلن الجيش الإسرائيلي بالتعاون مع “جهاز الأمن العام” (“الشاباك”) عن شروعه بنشر عدد كبير من الكاميرات على “الطرق الالتفافية” التي تُقطّع أوصال الضفة الغربية والمُستخدمة كشبكة طرق مُتكاملة تصل بين المستوطنات المتفرّقة في أنحاء الضفة الغربية، وذلك بهدف مُراقبة جميع مفترقات الطرق وتحرّكات الفلسطينيين، خاصّة في المناطق القريبة من المستوطنات ومراكز الجيش والحواجز المنتشرة، تحت مسوّغات “أمنية- دفاعية” كمنع وإحباط “العمليات” ومُلاحقة مُرتكبيها، بالإضافة إلى الحفاظ على أمن المستوطنات ودوريات الجيش في هذه المناطق، وبالفعل، تمكّنت سلطات الاحتلال من وضع آلاف كاميرات المراقبة، المرئية والمخفية، في هذه المناطق.[1]
وتستغل أجهزة الأمن الإسرائيلية قضايا إصدار التصاريح للفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلّة للحصول على “بنك صور” للفلسطينيين إلى جانب الكاميرات المزروعة على “الطرق الالتفافية” ونقاط التفتيش على الحواجز العسكرية والسجون. في هذا السياق، لا يُمكن إغفال الدور الكبير الذي تقوم به “شركات الأمن الإسرائيلية الخاصّة”؛ إذ تلعب هذه الشركات دوراً مهمّاً في إدامة الاحتلال؛ حيث تتولّى العديد من هذه الشركات بعض المهام التي كانت تُنفّذ من قِبَل المخابرات الإسرائيلية والجيش، وتُقدّم مجموعة من الخدمات كتوفير أنظمة أمنية لحماية المستوطنات؛ تأمين المعدّات في الحواجز ونقاط التفتيش؛ توظيف أفراد الأمن على نقاط التفتيش ومداخل المستوطنات إلى جانب تأمين الحراسة لمواقع البناء في المستوطنات وجدار الفصل العنصري.
في وقتٍ سابق، كشفت وكالةNBC News عن تورّط الشركة العالمية “Microsoft” في التعاون مع أجهزة المخابرات الإسرائيلية والجيش، من خلال الاستثمار في شركة إسرائيلية ناشئة تستخدم تقنية التعرّف على الوجه لمراقبة الفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية، على الرغم من أن الشركة العالمية صرّحت مراراً بأنها تتجنّب استخدام التكنولوجيا في مجالات تمسّ الحريات والمبادئ الديمقراطية أو حتى الاستثمار في، والشراكة مع، الشركات المتورّطة في هذا المجال. ووفقاً للتقرير؛ تقوم شركة AnyVision الإسرائيلية ببيع نظام برمجيات “للمراقبة التكتيكية المتقدّمة” يحمل اسم “Better Tomorrow”، ويُتيح هذا النظام للعملاء (وهم الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والجيش هنا) إمكانية التعرّف على الأفراد والأشياء من خلال أي كاميرا حيّة، ككاميرات الأمان والهواتف الذكية، ومن ثم تتبّعها كأهداف في أي مكان تنتقل إليه، وهذا يُستخدم بشكل رئيس في مراقبة الفلسطينيين في المناطق المحتلّة عام 1967، وخاصّة في مناطق القدس الشرقية. واعتبرت AnyVision أن التحقيق الذي أعدّته وكالة NBC News مُغرض وغير صحيح، بل واعتبر المدير التنفيذي للشركة إيلون إيتشتاين أن شركته “هي الشركة الأكثر أخلاقية في العالم” وأن الضفة الغربية ليست “محتلّة” كما تزعُم الوكالة التي اتّهمها بالتعاون مع، وتلقّي الأموال من، نشطاء فلسطينيين “مُعادين لإسرائيل” لإعداد مثل هذا التقرير، ونفى في الوقت ذاته أي صلة للشركة ببرنامج “غوغل أيوش- Google Ayosh “[2] الذي يُستخدم لهذا الغرض، علماً أن الشركة كانت قد حازت في العام 2018 على جائزة “الدفاع الإسرائيلية المرموقة” التي يتم منحها للكيانات التي “حسّنت بشكلٍ كبير أمن الدولة” لتفوّقها التكنولوجي ومُساهمتها المباشرة في منع “الهجمات الإرهابية” الفلسطينية، وأشاد بدورها وزير الدفاع الإسرائيلي من دون ذِكر اسمها، ومن دون أن تقوم الشركة بالإعلان عن ذلك أيضاً حفاظاً على سريّة المشروع.[3]
وتعمل شركة AnyVision المتخصّصة في تطوير برامج التعرّف على الوجه والأجسام والأشياء، على دمج برنامج الشركة في الكاميرات المختلفة، وتُشارك حالياً في مشروعين للجيش الإسرائيلي والشاباك في الضفة الغربية المحتلّة: الأول؛ نظام الرقابة المستخدم في نقاط التفتيش على الحواجز العسكرية لتحديد من لديه تصريح عمل، والثاني، وهو أكثر سريّة؛ يتم فيه استخدام الكاميرات الموجودة والقائمة بالفعل “CCTV cameras network” وتزويدها بقدرات التعرّف على الوجه لزيادة الرقابة العسكرية والأمنية الاحتلالية في مناطق متفرّقة من الضفة الغربية.[4]
بالإضافة لذلك، يُعتبر مشروع “Mabat 2000”- بالعربية “نظرة 2000”- مشروع المراقبة المرئية الأكثر شمولية للشرطة والأجهزة الأمنية في القدس الشرقية، وتحديداً في البلدة القديمة، ومن ضمن الشركات الخاصّة المتورّطة في عمل هذا المشروع المجموعة الإسرائيلية “C. Mer Group” والتي تُشرف على تركيب وصيانة وتنفيذ البرامج المستخدمة فيه، بالإضافة إلى تورّط أربع شركات أخرى في توفير أجهزة المراقبة “VideoTec” وهي شركة إيطالية خاصّة؛ الشركة الصينية “Dahua Technology”؛ و “Sony Corporation” وهي شركة يابانية، بالإضافة إلى شركة “Evron Systems” وهي شركة إسرائيلية خاصّة.
إجمالاً؛ وظّفت منظومة التحكّم والسيطرة الاستعمارية الإسرائيلية كافّة الوسائل التكنولوجية لقمع الفلسطينيين والسيطرة عليهم إلى جانب استخدام القوة المادية، وابتدعت العديد من التقنيات في سبيل ذلك ليس آخرها تقنية “التعرّف على الوجه” التي ينطوي توظيفها على عدد من المقاصد- تتعدّى “الاعتبارات الأمنية” كما تُروّج لذلك على الدوام- لتصل إلى إيهام الفلسطيني بانكشافه المُطلق أمام آلة القمعية التي لا يُمكن الإفلات منها، والقدرة الخارقة لهذه المنظومة وأجهزتها الأمنية والعسكرية على التحكّم والمراقبة والمُلاحقة، وهي التقنيات نفسها التي يتم تسويقها للأنظمة القمعية حول العالم بعد أن حوّلت الفلسطيني والمناطق المحتلّة إلى حقل تجارب لتقنياتها العسكرية والأمنية المادية والتكنولوجية.