مواجهة الخصوم:
باسم راشد – باحث في العلوم السياسية
بدأت منطقة القطب الشمالي تحظى أخيرًا بالاهتمام المطلوب من الجيش الأمريكي لما لها من أهمية فريدة للأمريكان. فأولًا الولايات المتحدة هي واحدة من ثماني دول فقط في القطب الشمالي (كندا، والدنمارك، وفنلندا، وأيسلندا، والنرويج، وروسيا، والسويد) والتي تسمح بممارسة بعض الحقوق السيادية في المنطقة، وتمنح مكانة عضو في مجلس القطب الشمالي الدولي، وثانيًا تؤدي تأثيرات التغير المناخي إلى زيادة الوصول إلى بعض مناطق القطب الشمالي التي كان يتعذر الوصول إليها سابقًا بما فيها طرق العبور والتجارة الهامة، بما سينتج عنه ظهور مسرح آخر للمنافسة الاستراتيجية، بما يستدعي بحث الخيارات العسكرية الأمريكية للدفاع عن مصالحها في هذه المنطقة من العالم.
ما سبق يمثل محور تقرير جديد صادر عن معهد بروكينجز بعنوان: “الخيارات العسكرية الأمريكية لتعزيز دفاع منطقة القطب الشمالي” لمجموعة من المشاركين؛ يناقشون فيه أولوية وضع منطقة القطب الشمالي في إطار الاستراتيجية العسكرية والدفاعية الأمريكية، ويطرحون توصيات لصانع القرار للخيارات الدفاعية المتاحة للحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة.
خلفية عامة
يُشير التقرير إلى أن تأثيرات تغير المناخ تعمل على تقليل الجليد في القطب الشمالي، مما يؤدي إلى مزيدٍ من الوصول والاستكشاف والاستغلال الاقتصادي، لكن في القطب الشمالي من الصعب للغاية الحفاظ على العمليات الدفاعية بسبب البيئة المعادية بطبيعتها، والمسافات الشاسعة، ونقص البنية التحتية الداعمة.
وبالإضافة لهذه التحديات، تدَّعي كل من روسيا والصين مصالح استراتيجية في المنطقة. فروسيا من ناحية تعتبر القطب الشمالي جزءًا من هُويتها الوطنية، كما أن لها سيطرة إدارية تجارية على طريق بحر الشمال، وقد ادعت أحقيتها فيما يُقدَّر بنحو 80٪ من النفط والغاز تحت الجرف القطبي، لذلك تستثمر بقوة في البنية التحتية وتحسين وضعها العسكري في القطب الشمالي؛ حيث طوَّر الجيش الروسي مؤخرًا قواعده العسكرية، وأعاد تخصيص المزيد من الأصول الجوية والبحرية في المنطقة، وزاد من وتيرة عروض القوة الإقليمية.
أما الصين فقد ضغطت حتى حصلت على وضع مراقب في مجلس القطب الشمالي باعتبارها دولة “قريبة من القطب الشمالي”، كما نصَّبت نفسها في عام 2013. وحاليًا، تدَّعي الصين أنها مهتمة بشكل أساسي بالفوائد الاقتصادية للمنطقة، فضلًا عن أنها تنظر أيضًا إلى المنطقة باعتبارها وسيلة لتوسيع مبادرة “الحزام والطريق” وكطريق بديل لإمدادات الطاقة لديها.
وتجعل هذه التطورات القطب الشمالي ذا قيمة استراتيجية متزايدة، خاصة في مجال المنافسة الأمنية. إذ تعمل العديد من دول القطب الشمالي على تطوير البنية التحتية الحيوية وإنشاء وجود عسكري أكثر قوة في المنطقة، ومن المرجح أن تؤدي الزيادات المستمرة والمستقبلية في النشاط العسكري الروسي والصيني إلى معضلة أمنية، تجد معها الولايات المتحدة وكندا ودول الشمال نفسها في حاجة إلى اتباع النهج نفسه.
الاستراتيجية الأمنية
وفقًا للتقرير، تتمثل استراتيجية وزارة الدفاع ووزارة الأمن الداخلي في القطب الشمالي في الدفاع عن الوطن والتعاون مع الحلفاء والشركاء لمعالجة المصالح المشتركة، وذلك عبر بناء الوعي بالتهديدات وتحسين القدرات التشغيلية ودعم النظام القائم على القواعد في المنطقة. في هذا الصدد، توضح الاستراتيجية مهام ومسؤوليات الأقسام الأمريكية المسؤولة عن الأمن في القطب الشمالي على النحو التالي:
1- الجيش الأمريكي: تركز استراتيجية القطب الشمالي التي أصدرها الجيش الأمريكي مؤخرًا على استعادة هيمنة القطب الشمالي من خلال إنشاء جيش قادر على تكوين وإبراز قوات مدربة ومجهزة ومستدامة للقتال والفوز والبقاء على قيد الحياة في ظروف الطقس شديد البرودة والارتفاعات العالية. ولتحقيق ذلك، يخطط الجيش لإنشاء مقر عملياتي بنجمتين مع ألوية قتالية مدربة ومجهزة بشكل فريد لزيادة قدرات الجيش في الطقس البارد. كما تسلط الاستراتيجية الضوء على حاجة الجيش إلى تحسين الاستعداد المادي للوحدات القادرة على القطب الشمالي لإجراء عمليات موسعة في المنطقة، بالإضافة إلى الحاجة إلى تحسين التدريب الفردي والجماعي للقوات للعمل في القطب الشمالي.
2- القوات الجوية: تعد القوات الجوية لاعبًا رئيسيًا في الدفاع عن القطب الشمالي؛ وذلك من خلال مهامها المتعددة؛ مثل نظام الإنذار الشمالي الذي يساعد على الكشف والتتبع والمشاركة للتهديدات الجوية والصاروخية، فضلًا عن توفير الوعي الأرضي والفضائي، بالإضافة إلى خيارات الاستجابة السريعة في المنطقة من خلال الطائرات المقاتلة والتزود بالوقود. كذلك تدير القوات الجوية أيضًا مدرسة Arctic Weather Survival وتدير الطائرة الوحيدة المجهزة بالتزلج LC-130 في مخزون الجيش الأمريكي.
3- القوات البحرية: أصدرت القوات البحرية مخططها الاستراتيجي للمنطقة القطبية الشمالية في 5 يناير 2021؛ حددت خلاله التحديات والفرص القائمة في المنطقة في ظل التنافس العالمي. كما أكد المخطط الحاجة إلى تعزيز الوجود البحري من خلال دمج قدرات محددة في البحرية وسلاح مشاة البحرية وتعزيز الشراكات التعاونية مع دول القطب الشمالي، وبناء قوة بحرية في القطب الشمالي أكثر قدرة من خلال التحديث والتدريب ومفاهيم التوظيف المحدثة، وذلك بهدف تحسين الدفاع عن الوطن، وتعزيز المصالح الوطنية للولايات المتحدة والحفاظ عليها في المنطقة، وحماية خطوط الاتصال البحرية.
4- وزارة الأمن الداخلي وخفر السواحل: أصدرت وزارة الأمن الوطني “نهجًا استراتيجيًا محدثًا للأمن الداخلي في القطب الشمالي” في 11 يناير 2021؛ يحدد من خلاله أدوارًا ومسؤوليات واضحة للمكونات التشغيلية، مثل: وكالة أمن البنية التحتية الحرجة (CISA)، والجمارك وحماية الحدود (CBP)، والوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ (FEMA). كما يركز على دور خفر السواحل في حفظ الأمن في المنطقة؛ من خلال استخدام طائراتها وقواعدها لتنفيذ عمليات السلامة البحرية والأمن والحوكمة لتعزيز سيادة الولايات المتحدة، وتقوية القواعد والمعايير من أجل منطقة قطبية آمنة ومستقرة. ويُعد هذا النهج الشامل خطوة أولى حاسمة لاستخدام حل حكومي كامل حقيقي لمجموعة تحديات القطب الشمالي.
خطوات ضرورية
يؤكد التقرير أن هناك حاجة لمزيد من الجهود لتحسين الموقف العسكري الأمريكي والجاهزية في المنطقة، وتتضمن هذه الجهود 3 خطوات ضرورية كالتالي:
1- يجب على الجيش الأمريكي إعطاء الأولوية للمشاركة من خلال المائدة المستديرة لقوات الأمن في القطب الشمالي (ASFR) وبين قادة القوات المسلحة في دول القطب الشمالي للمساعدة في التخفيف من مخاطر التوترات العسكرية المتزايدة في القطب الشمالي: إذ يعتبر ASFR، الذي يضم روسيا، هيئة دفاعية دولية مهمة، وهي موجودة بالإضافة إلى هياكل الحكم الأوسع في القطب الشمالي، مثل: مجلس القطب الشمالي، ومجلس بارنتس الأوروبي، ومنتدى خفر السواحل في القطب الشمالي.
2- يجب على الجيش الأمريكي تبسيط علاقات القيادة، وتبسيط السلطات من خلال تضمين منطقة القطب الشمالي بأكملها تحت قيادة مقاتلة جغرافية واحدة: فحاليًا يعمل بالمنطقة ثلاث قيادات جغرافية للمقاتلين (NORTHCOM وEUCOM وINDOPACOM)، ومن ثم فإن تعيين قيادة مقاتلة أساسية لقضايا القطب الشمالي وإعادة ترسيم الحدود وفقًا لذلك من شأنه أن يرفع من وضوح الأهمية الاستراتيجية للمنطقة ويسهل العمليات المنسقة. وفي هذا الصدد، يوصي التقرير بالقيادة الشمالية الأمريكية NORTHCOM بسبب مسؤولياته المتأصلة في الدفاع عن الوطن ومسؤولياته المشتركة مع كندا من خلال قيادة الدفاع الجوي لأمريكا الشمالية لتأمين القطب الشمالي.
3- يجب أن يواصل الجيش الأمريكي تحسين العلاقات العملياتية مع الدول الحليفة والشريكة من خلال التدريبات المشتركة، فقد أدت المصالح الاستراتيجية لروسيا والصين والأنشطة المتزايدة في المنطقة إلى زيادة مشاركة دول الناتو في التدريبات العسكرية عبر منطقة القطب الشمالي، وينبغي على الجيش الأمريكي أن يواصل البناء على العلاقات العملياتية في القطب الشمالي. ويعد تدريب تحدي الطيران بين الدول القطبية والولايات المتحدة مثالًا رائعًا لحدث تدريبي يركز على الهواء ومتعدد الجنسيات في القطب الشمالي والذي سيفيد بلا شك جميع المشاركين فيه.
توصيات للقوات الأمريكية
قدَّم التقرير مجموعة من التوصيات للوحدات العسكرية الأمريكية لتعزيز قدراتها في منطقة القطب الشمالي، يمكن إبرازها كالتالي:
1- بالنسبة للجيش الأمريكي: يؤكد التقرير أن من المهم للجيش الأمريكي تضمين متطلبات القطب الشمالي كجزء من أولويات التحديث؛ مثل الحرائق الدقيقة بعيدة المدى، والجيل التالي من المركبات القتالية، والرفع الرأسي المستقبلي، والشبكات الدفاعية، والدفاع الجوي الصاروخي، وفتك الجنود. كما ستتطلب البيئة الفريدة للقطب الشمالي تطوير مفاهيم للعمل هناك، والتي بدورها ستقود المتطلبات وتطوير القدرات التي تدعم التنقل واستدامة منصات التحديث الخاصة بها. بالإضافة إلى ذلك، سيحتاج الجيش أيضًا إلى العمل مع الخدمات الأخرى لتحسين الفعالية التشغيلية، وكذلك تقليل متطلبات الاستدامة في منطقة القطب الشمالي، بما يستدعي ضرورة أن يستمر الجيش في تعزيز التعاون في القيادة والتحكم بالمشتركين على جميع المجالات مع القوات الجوية والخدمات البحرية، والنظر في أفضل السبل للانضمام إلى خفر السواحل، حسب الاقتضاء.
2- بالنسبة لقوة الفضاء: يجب أن تستمر قوة الفضاء الأمريكية (USSF) في تطوير قدرات متقدمة وتوسيع فهمها لدعم العمليات القطبية، كما يجب أن تبحث أيضًا عن طرق لبناء علاقات مع الوكالات المدنية المكلفة بمهام مماثلة، بما في ذلك الأعضاء ذوو الصلة في مجتمع الاستخبارات والوكالات الأخرى التي ترتاد الفضاء مثل الإدارة الوطنية لعلوم المحيطات والغلاف الجوي.
3- بالنسبة للقوات الجوية: يجب أن يعمل سلاح الجو على تعزيز التوعية والدفاع عن الوطن من خلال الدفاع عن التهديدات الجوية والصاروخية، كما يمكن للقوات الجوية تجميع و”توسيع” مفاهيم التشغيل الجديدة التي تتعامل مع المسافات الطويلة والقدرة على البقاء المستخدمة بالفعل في المحيط الهادئ.
4- بالنسبة للقوات البحرية: يجب أن تركز البحرية على السيطرة على البحر لتعزيز جهود الردع في القطب الشمالي من خلال زيادة وجود السفن السطحية هناك، كما ينبغي أن تستكشف بناء قواعد متنقلة سريعة يمكن استخدامها كمحطات دعم للأصول الجوية والبحرية. وهناك خيار آخر يتمثل في استخدام سفينة قاعدة بحرية استكشافية لتعمل كقاعدة بحرية متنقلة بسطح طيران محدود، مما يوفر القيادة والسيطرة الأمامية، وتسهيل الوصول إلى المعدات الموجودة مسبقًا، وتمكين توظيف قوات العمليات الخاصة، ودعم قدرات الإجراءات المضادة للألغام المحمولة جوًا. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يدعم سلاح مشاة البحرية جهود الردع البحري من خلال الانتشار المعتاد للوحدات البحرية الساحلية (MLR) في القطب الشمالي، كما يجب أن تستفيد الخدمات البحرية أيضًا من التقدم في الذكاء الاصطناعي وأتمتة الطائرات بدون طيار لنشر سفن سطحية بدون طيار طويلة التحمل ومدى طويل قادرة على إطلاق طائرات بدون طيار مضادة للسفن المعادية، وأخيرًا، يجب على الخدمات البحرية تعزيز الشراكات التعاونية مع دول القطب الشمالي المتحالفة من خلال التدريبات العرضية والمعتادة وأنشطة التعاون الأمني.
5- بالنسبة لقوات خفر السواحل: يجب أن يستمر خفر السواحل في القيام بدوره باعتباره عامل تكامل بين وزارة الدفاع والمخابرات ووزارت الأمن الوطني، كما ينبغي على خفر السواحل الاشتراك بشكل وثيق مع الإدارة الأمريكية والكونغرس لمواصلة تقدم برنامجها الجديد لبناء كاسحة الجليد (Polar Security Cutter- PSC)، وأي برنامج متابعة لإعادة رسملة كسر الجليد، وذلك عبر إزالة القيود القانونية والتمويلية التي قد تقف في وجه هذا الأمر. كما يجب أن تكون هذه الكاسحات قادرة أيضًا على العمل، عند الضرورة، كمنصات ترحيل اتصالات آمنة ومحطات ارتباط / تنزيل عبر الأقمار الصناعية؛ ومواقع تدريج متنقلة؛ فضلا عن إعادة الإمداد للسفن الجوية والسفن السطحية وتحت السطحية المأهولة وغير المأهولة على وجه الخصوص.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع