عباس صالح- الديار
كل يوم، تتوسع العتمة في لبنان، ويزداد المشهد سواداً، وتصبح الصورة أكثر قتامة وتسوء الرؤية أكثر فأكثر.
عملياً، تحول لبنان منذ أكثر من عامين، بحسب مصدر سياسي رفيع، الى حلبة صراع متوحش، بين أقطاب العالم، وإن بأدوات محلية. وصار القاصي والداني يعرف طبيعة تلك الحرب الناعمة، التي تداخلت فيها عوامل تصفية الحساب مع مقاومة عاندت تلك «الطبيعة الكونية» وتوهجت وانتصرت من خارج كل السياقات والتوقعات، وصار لها «شأن عظيم» يمكنها من مقارعة سياسة «الاملاءات والانصياع» التي كانت معتمدة وسائدة في لبنان لعقود زمنية طويلة، ورفضها رفضاً قاطعاً أحياناً، كما حصل في ملف «التسويات القهرية» التي فُرضت على مستوى دول المنطقة مع الكيان الاسرائيلي، وما يستتبعها من تنازلات حتمية عن ثروات ومكتسبات وثوابت وطنية وقومية.
على هذا المدماك الاول تأسست اعتبارات إطلاق تلك «الحرب الناعمة» التي كانت قد سبقتها محاولات عديدة من الحروب الميدانية العسكرية والاقتصادية وسواها في كثير من الطرق، لكنها بالطبع اصطدمت بجدران واعتبارات لم تكن في حسبان المخططين لها. وصارت الخطة الجديدة، المعمول بمقتضياتها الآن، وفق رأي المصدر السياسي، تقضي بإشعال النيران في كل لبنان، وكيِّ اللبنانيين جميعاً وتجويعهم، وإيقاظ الضغائن والاحقاد، وإثارة العصبيات الطائفية والمذهبية، وتعميم الخراب على كل المستويات، إلى ان يسمع العالم بأسره صرخات جوع اللبنانيين، باعتبار ان التجويع هو أسهل الحروب على الأساطين الممسكة بالاقتصاد الكوني.
من هنا انطلق الصراع في لبنان وتدرج صعوداً نحو مستويات موجعة لم يكن يتخيلها العقل البشري، وهي تزداد مع كل يوم جديد قساوة ووحشية بأشكال متعددة، والهدف طبعاً هو تطويع من لم يتطوع بعد والقبول بقائمة من المتطلبات التي لم تعد خافية على أحد وهي تتمثل أولاً بالموافقة اللبنانية على ترسيم الحدود البحرية وفق المصالح الاسرائيلية، والتنازل لصالحها عن آبار نفط بكاملها ، واجزاء من أخرى مرسمة في الجانب اللبناني من المياه الاقليمية، والشروع لاحقاً في مفاوضات السلام، والالتحاق بركب المطبعين معها من دول المنطقة، فضلاً عن إعادة الهوية السياسية للبنان بكامله الى المعسكر الغربي في معادلة الاصطفافات الدولية والاقليمية، ومنعه من التغريد خارج أسرابه القومية المتماهية مع الجغرافيا والتاريخ.
عند هذه الشروط الاساسية الكبرى يمكن ان تكتفي الارادة الغربية، وفقاً لرأي المصدر السياسي، بأن تحصل على هذه العناوين العريضة، على انها تدرك انها قادرة بعد ذلك من إطلاق عملية مكافحة جدية للفساد المستشري في جسد الدولة والوطن اللبناني وفي نفوس اللبنانيين، وهي قادرة بتقنياتها المتعددة وسيطرتها على مؤسسات المال العالمية، ان تضع حدا فاصلاً لهذه الامراض وتستأصلها من جذورها، ولذلك فإنها تستخدم اليوم عنوان مطلب مكافحة الفساد من أي حكومة مقبلة، كواجهة لانتزاع التزامات سياسية بشروطها الحقيقية.
ولكن، على هامش هذا الكباش الدولي على الساحة اللبنانية المنهكة، هناك قوى سياسية محلية تحاول تجيير ذلك الصراع لصالحها، رغم ضعفها وضآلة حجمها في إزائه، ومع ذلك تعمل جاهدة في الخفاء والعلن على محاولة الاستفادة منه، عبر إدراج مطلبها الدائم بنزع سلاح المقاومة وصواريخها الدقيقة والعمل الحثيث لاقحام هذا المطلب في بازار التفاوض القائم على جوع اللبنانيين وحرمانهم من كل مقومات العيش، وهي تعتمد في تكتيكها على إثارة الغبار الكثيف حوله، والتصوير بأنها هي القوى الوكيلة للسياسات الغربية في لبنان، وهي التي تعمل على تضمين القائمة الغربية ببنود أخرى تخدم أجندتها المحلية الخاصة، من قبيل محاولة إقحام سلاح المقاومة وصواريخها كبند اول في قائمة المطالب الغربية، علماً ان المحور الغربي نفسه، وعلى رأسه الولايات المتحدة الاميركية، لم يُظهِر يوماً أنه يقدم هذا المطلب على انه من الأولويات الملحة في أجندته الخاصة بلبنان، وتراه يتصرف بالشكل الذي يوحي بانه مهتم بنزع سلاح المقاومة فعلاً، من أجل إرضاء اللوبيات الداعمة للحركة الصهيونية والمؤثرة في كل دول المحور الغربي، لكنه في عمق خياراته السياسية ليس منزعجاً إلى هذا الحد من سلاح «عاقل» يمكنه ان يوقف الغطرسة الاسرائيلية ويَحدّ من جنوحها الدائم والفطري نحو الحروب واستسهالها لارتكاب المجازر ضد الانسانية، وهو الامر الذي عادة ما يحرج حلفائها الغربيين، أمام الرأي العام في دولهم القائمة على احترام الانسان، ولكن على ان يبقى ذلك ضمن ضوابط قاعدة عدم كسر التفوق العسكري لاسرائيل في موازين القوى، لإبقائها دولة قومية لليهود تنفيذاً لنصوص مقررات مؤتمر «بلفور» في العام 1917.
وعلى هذا الأساس، يمكن تفسير عدم اكتراث دول المحور الغربي بتقديم ملف سلاح المقاومة في لبنان على ملفاتها الاكثر إلحاحاً، بينما تبدو القوى اللبنانية المحلقة في هذا الفضاء أكثر تمسكاً بهذا المطلب وإلحاحاً عليه، مع علمها المسبق بأن السلاح ليس الا اداة هامة من أدوات الحروب، في حين ان خوضها في اي مكان يحتاج الى عوامل عديدة موازية، وربما تكون أهم من السلاح نفسه، ليس أقلها التدريب المتواصل، والمواظبة الدائمة، والصدق مع الذات، والايمان المطلق بأحقية القضية التي تندلع الحروب عليها، والتمسك، ما أمكن، بأخلاقيات النزاعات المسلحة، واحترام كافة قواعد الاشتباك، ولا سيما تلك المتعلقة بحفظ ارواح المدنيين، وإلى ما سوى ذلك من عناصر لا تتوفر بأي حال من الاحوال لدى القوى التي تخوض اليوم حرباً ضروساً للصق مطلب نزع سلاح المقاومة في قائمة المطالب الغربية من لبنان…