قد يكون الاحتقان المتمكن من نفوس اللبنانيين، وفقدان الحيلة التي أصيبت بها مختلف القوى السياسية، عنصراً دافعاً لتشكيل الحكومة. وكل من ينوي الإقدام على خطوة قبول المسؤولية وتحملها، يظنّ نفسه قادراً على مواجهة الأزمات ومعالجتها. وقد يختار مصارعة طواحين الهواء مستنداً على قوة ذاتية وفعل شخصي. ولا شك أن رئيس الجمهورية، ميشال عون، من هذا الصنف. وكل من يطمح ليكون رئيس الحكومة من هذا الصنف أيضاً. ومن يضع نفسه في هذه الخانة، قد ينظر إلى كل ما يجري من حوله وكأنه يصب في خدمته.
لنعد إلى البداية، ومنذ تكليفه، عبّر الرئيس نجيب ميقاتي عن الدعم الدولي والإقليمي لمهمته. انطلق بثقة عالية بالنفس في ترتيب حكومة الإنقاذ، واستمر بتفاؤله بالتعاون مع عون في سبيل تشكيل سريع للحكومة.
المخلّص والمنقذ
خطوة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة برفع الدعم، أيضاً نظر إليها ميقاتي بأنها تصب في صالحه وتخدمه، فلا يتحمل هو أو حكومته مسؤولية رفع الدعم والانفجار الاجتماعي. وهكذا يأخذ مداه في مفاوضات التشكيل، ريثما تمرّ العاصفة. وبعدها، تتشكل الحكومة فينخفض سعر صرف الدولار قليلاً، ويتم التوصل إلى صيغة لتوفير المحروقات ولو بسعر مرتفع، خصوصاً أن الناس وصلت إلى حدّ الاختناق، وإلى حد المطالبة بتوفير المواد الأساسية مهما بلغ سعرها. وعليه، يأخذ ميقاتي صفة المخلّص والمنقذ. وكذلك بالنسبة إلى نزول الجيش إلى المحطات وخزاناتها والكشف عليها، وتوزيع المخزون على اللبنانيين. فمن شأنه أن يريح ميقاتي أكثر، ويعتبر أن الأرضية أصبحت جاهزة لولادة الحكومة، وكل المقومات تتوفر إلى جانبه.
لقاء السبت الاستكشافي
بموازاة هذه الوقائع، يستمر بث الأجواء الإيجابية حول اقتراب موعد تشكيل الحكومة، وأن التعاون مستمر بين الرئيسين. بعد أربع وعشرين ساعة على دعوة عون الفاشلة لعقد جلسة لحكومة تصريف الأعمال، حطّ ميقاتي في بعبدا، مع الأجواء الإيجابية التي رافقته. وبالحقيقة، فإن اللقاء -حسب ما تكشف مصادر متابعة- طلبه ميقاتي لجس نبض عون واستكشاف حقيقة موقفه. كان يمكن للقاء أن يكون سرياً، كما حصل لقاء سابق بينهما عصر يوم أحد. لكن الأجواء السلبية التي حاول البعض إشاعتها حول العلاقة بين عون وميقاتي على خلفية قرار حاكم مصرف لبنان، حتم جعل اللقاء علنياً مع الإصرار على تأكيد الجو الإيجابي. والحقيقة أن اللقاءات اتخذت صفة الاستكشاف من قبل ميقاتي، بعد تواتر جملة مواقف ورسائل منقولة عن لسان عون إليه، تحمّله مسؤولية ما أقدم عليه سلامة، وتتهمه بالتواطؤ. لذا، اندفع ميقاتي إلى الاستكشاف بعد كلام قاله عون عن تصعيد سقف شروطه لتشكيل الحكومة، وأبرزها الحصول على ضمانات بإقالة سلامة.
هذا اللقاء الاستكشافي الثاني الذي يجريه ميقاتي مع عون. اللقاء الاستكشافي الأول كان بعد أقل من 24 ساعة على تصريح مستشار رئيس الجمهورية بيار رفول تجاه ميقاتي، وأن طريقه إلى تشكيل الحكومة متعثرة. حينها طلب الرئيس المكلف لقاءاً عاجلاً لفهم حقيقة موقف عون الذي نفى تبنيه لما قاله رفول، وأكد أنه أنّبه على هذا الموقف، مبدياً الاستعداد للتعاون.
في اللقاء كان ميقاتي إيجابياً ومبدياً كل المرونة للتشكيل، وبعد انتهائه استمرت الأجواء الإيجابية، فيما كان عون يوجه رسالة إلى المجلس النيابي يدعوه فيها إلى عقد جلسة لمناقشة قرار حاكم مصرف لبنان. فعون يتهم سلامة ورئيس المجلس وميقاتي ورؤساء الحكومة السابقين بالتواطؤ ضده والضغط عليه لإضعافه، لدفعه إلى قبول تشكيل الحكومة، بينما المعلومات تفيد بأنه لا يزال متمسكاً بشروطه لتشكيلها.
حرب التسريبات
ولنسّلم بكل الأجواء الإيجابية التي تتم إشاعتها، حول إمكانية تشكيل الحكومة الأسبوع المقبل. فما الذي يمكن لهذه الحكومة تحقيقه؟ لبنان في فوضى سياسية، تتشعب فيها حرب التسريبات والشروط. لكنها كلها لا يمكنها إشاحة النظر عن القضية الأساسية، وهي الأزمة الكبرى التي تمرّ بها البلاد. مدار الانهيار سيقود إلى مدار الارتطام. كل المؤشرات تفيد أن تشكيل الحكومة لن يكون قادراً على معالجة الأزمة. داخلياً وخارجياً، تصدح أصوات رافضة لآلية تشكيل الحكومة. وتبرز تأكيدات بأن أي حكومة لم تعد قابلة لأن تتشكل إلا بشروط رئيس الجمهورية، ميشال عون.
لم تسمح أي قوة في الحرب اللبنانية بأن تفتقد المستشفيات المستلزمات الضرورية، طبياً ودوائياً وكهربائياً. ولم يحدث أن أغلقت أي مستشفى أبوابها. زعماء الميلشيات لم يتركوا المستشفيات والمدارس والأفران بلا محروقات. لكن الأسوأ من ذلك كله، هو التفاهة السياسية التي تنطوي عليها القوى فيما بينها، أو المواقف الديبلوماسية التي من خلال اعتمادها لشعار “كلن يعني كلن” يؤدي إلى تضييع المسؤولية، وعدم تحميل المسؤولية لمن يجب تحميله إياها. تلك التعمية عملية ممنهجة، لا تسهم بغير تعميم الخراب وترك اللبنانيين يتصارعون بلا أفق أو أمل.
كابل أم اليونان
كان الصراع في التسعينات حول أي لبنان نريد: هونغ كونغ أم دبي أو هانوي. وأحياناً كان يتنبأ البعض أن نصير على صورة غزة. اليوم، كل الخشية من أن يتحول لبنان إلى ما يشبه كابل، وأن نرى في النهاية بقاء الرجل الأخير الذي لا بد له ان يتبرع بإزالة العلم، في إشارة على إسدال الستارة على ما كان يسمى لبنان.
وإذا كان هناك من يحاول مقارنة الوضع بما حصل في اليونان، فلا بد من الوقوف عند مشهد سقوط حكومات متعددة فيها بفعل الأزمة، التي تتحول بهذا السياق إلى مطحنة تهرس من يضع نفسه فيها، على رغم من أن اليونان كانت بحضن الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد.
أما بحال اتجه الوضع نحو الأسوأ (وهنا لا داعي للتهويل)، فلا بد من التخوف الواقعي إزاء مشهد أكثر خطراً ودموية قد يتم اصطناعه.