بعيدًا عن مذاهب البحث الأكاديمي “المدرسي”، لا يمكن فهم أبعاد الأزمة التي يتخبط فيها الكيان اللبناني من خلال هذه المذاهب والمناهج.
اول عيوبها انها تنطلق من فرضية غير صحيحة وهي اعتبار الكيان “دولة” تتكون خزينتها من الاقتطاعات والضرائب واستثمار الموارد. وهذا كله منذ تأسيس الكيان لم يكن يمثل ربع القيمة التي تؤمّن أسباب العيش لهذا الكيان.
الازدهار المضلل الذي كان ينعم فيه هذا الكيان كان في زمن محدود بداية الخمسينيات إلى أواسط الستينيات أي لم يتعدَّ خمسة عشر عامًا في كل تاريخه. كما أنه كان حصريًا في منطقة جبل لبنان وبيروت في حين كانت الأطراف تعاني العوز والتخلف في كل أسباب الحياة. وهذا الازدهار لم يكن بفعل سياسات وإدارات الكيان انما كان نتيجة لاحتلال فلسطين وقيام الكيان الاستعماري الاستيطاني، حيث هربت رؤوس الأموال الفلسطينية وقسم كبير منها جاء إلى لبنان فأنشئ القطاع المصرفي فيه. كما أنه انتقلت زراعة الحمضيات والبساتين من فلسطين إلى لبنان بمشاركة رأسمالية فلسطينية ومالكي الأراضي اللبنانيين والعمالة الفلسطينية. ومن ثم توالت الثورات والانقلابات في كبرى الكيانات في المشرق العربي وكذلك هرب رأسمالها ليقيم في لبنان، ما وفر موارد لم تكن متوقعة وصلت حد التخمة.
لكن ترافق مع هذا الازدهار نشوء أحزمة البؤس في ضواحي بيروت الشرقية اساسًا وبيوت الصفيح التي تمددت على طول الشواطئ اللبنانية، والتي كانت تسكنها عائلات اللاجئين الفلسطينيين، من صور إلى طرابلس مرورًا بجوار المدن الرئيسية على طول الساحل اللبناني.
ثانيًا: إن المذاهب المذكورة لا تلاحظ ان الموارد الموازية والتي لا تدخل في حساب الخزينة والتي تغطي ثلاثة ارباع أسباب العيش للمقيمين ومنها ما يأتي من موارد للاخوة الفلسطينيين والمؤسسات التي ترعى شؤونهم وفي مقدمها كانت مؤسسة الأونروا ومن ثم منظمة التحرير، وكذلك الموارد التي تأتي إلى المؤسسات الطائفية واستثماراتها في الأوقاف وأكثرها لدى الطائفة المارونية ويليها الطائفة السنية، بجانب موارد مؤسسات الرعاية الاجتماعية والمؤسسات الصحية والتربوية والجامعات، والتي رغم التفاوت فيما بينها كانت تؤمن قاعدة اجتماعية تنعكس في تجسيداتها السياسية بالحجم الذي جعلها دائمًا أكبر من أي تشكيل سياسي عابر للطوائف والمناطق، كل ذلك كان بسبب طبيعة الدور الوظيفي الذي أسس لأجله هذا الكيان، والذي كان يمثل حاجة غربية كانت لفرنسا ومن ثم بالشراكة بعد الحرب العالمية الثانية مع أميركا والهيمنة الأميركية، حيث كان الكيان اللبناني يشكل موطئ قدم ومحطة للانطلاق منها إلى العمق العربي وخاصة إلى سوريا، سواء لغايات اقتصادية أو للتدخل العسكري.
الا أن في السياق العام لم يكن الكيان اللبناني دائمًا محطة آمنة؛ مثلًا لم يكن انزال الأسطول السادس الاميريكي عام ١٩٥٨ على الشواطئ اللبنانية لحماية عهد كميل شمعون وارتباطه بحلف بغداد سهلًا وفرض عليه عدم الدخول بالحلف واطاحت به ثورة شعبية أدت إلى عودة الأسطول الاميريكي من حيث أتى. ومن ثم شكّل لبنان قاعدة أساسية للثورة الفلسطينية ومركز استقطاب لكل المعارضين العرب، حتى كان العام ١٩٨٢ والاجتياح الصهيوني الذي وصل إلى بيروت، لاستعادة السيطرة على الكيان “المحطة”، وكان ذروة القوة التي يملكها الغرب في المنطقة إلى أن جاء العام ١٩٨٣ وانقلب مسار القوة من الهيمنة والسيطرة إلى الهروب بأحداث عاصفة هزت أركان الحلف الاطلسي وأخرجت قواته من لبنان. واستمر المسار إلى أن أجبر الجيش الصهيوني على الانسحاب من دون قيد أو شرط.
هنا فقد الكيان اللبناني الحاجة إليه بهذا الجانب وتحول من موطئ قدم إلى بؤرة قلق تشكل تهديدًا وجوديًا للكيان الاهم في المنطقة وهو القاعدة الاستعمارية الأساسية للغرب والمتمثل بالكيان الصهيوني. من هنا لم يعد لدى الغرب الا استنزاف مقومات لبنان ومصادره بالاستناد إلى حجب الريع الذي كان الاساس في معيشته وتفويض المؤسسات المشاركة بالاستناد إلى قوى سياسية واجتماعية كانت ترتبط به تاريخيًّا بشكل مباشر مثل الكنيسة المارونية وافرازاتها السياسية، او بالوكالة عبر السعودية مثل دار الإفتاء والحريرية السياسية وحتى التنظيمات الكيانية في الطائفة السنية وغيرها، وباتت أدوات تستخدم في التحريض ضد كل من يهدد الهيمنة الغربية والكيان الصهيوني ولو أدى ذلك الى حرب اهلية.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع