كيف حشدت طالبان نحو كابول بهذه السرعة؟ الحركة تسابق “الثلج” وعودة أمراء الحرب السابقين لتنظيم صفوفهم بعد الانسحاب الأميركي
مصطفى الأنصاري -أندبندنت
أثار تسارع استحواذ حركة طالبان على المديريات والولايات الأفغانية حيرة العديد من المهتمين، بمن في ذلك الأميركيون الذين يعرفون التنظيم جيداً، إلا أن الفترة الماضية كشفت عن استراتيجية مختلفة للحركة هذه المرة نحو كابول، التي بدت مباغتة حتى لزعماء الحرب المحليين على ما يبدو.
وتقول مصادر أفغانية تحدثت إلى “اندبندنت عربية”، إن طالبان أصبحت في عجلة من أمرها فجأة لأسباب عديدة، فهي لا تريد أن تفوت “ظروف الارتباك والصدمة في المشهد الأفغاني مع انسحاب القوات الأميركية والدولية، وأرادت استغلال الظرف بصورة خاطفة قبل أن يعيد أمراء الحرب السابقون والقوى الدولية ذات المصالح المختلفة تنظيم صفوفهم في الداخل الأفغاني”.
يأتي ذلك في وقت أصبح واضحاً لدى الحركة أن زخم المفاوضات مع الأميركيين الذي استفادت منه كثيراً في تحسين صورتها الدبلوماسية، لم يكن ليصل في نهاية المطاف إلى إقناع كابول برؤيتهم في الحكم، وسط واقع تكون فيه الهيمنة لـ”طالبان”، وإن كان بمشاركة العديد من الأطراف التي ترتضيها، أمثال الشخصيات الدينية والقبلية والسياسية التي لم تكن في الصدارة إبان فترة الاحتلال.
على خطى القوة الأميركية “595”
تبعاً لذلك يقول المصدر المستقل، اتضح أن لدى قادة الحركة الميدانيين خطة عسكرية جاهزة للسيطرة على البلاد لم تكن في الحسبان، تنهج طريق الغزو الأميركي الذي بدأ بالشمال، في معركة قادتها القوة “595” الأميركية الخاصة في 16 أكتوبر (تشرين الأول)، التي انطلقت من قاعدة واشنطن في “أوزبكستان” القريبة في مروحية حربية لخوض معركة ضارية في “بيشام” لتسقط على أثرها مدينة مزار شريف، بعد سحق إمدادات قوات “القاعدة” وطالبان في ممر “تيانغي” الاستراتيجي، ومن ثم بقية أجزاء أفغانستان، بمساندة ألوية التحالف الشمالي بقيادة أميري الحرب دوستم، وآتا.
أما بالنسبة إلى حركة طالبان فإنها بادرت هذه المرة إلى محاصرة كابول من الشمال، بعد تجارب تاريخية مريرة، جعلت تلك المناطق عصية على الحركة حتى آخر أيامها في أفغانستان، ما أعطاها أولوية في خطة هذه الجولة من حروب أفغانستان عند الحركة، خصوصاً أنها تضم أمراء حرب تقليديين مثل “دستم”، الذي احتفت طالبان كثيراً بإسقاط معقله، ومصادرة قصره، فضلاً عن بزته العسكرية التي ارتداها أحد مقاتلي التنظيم، في محاولة لبث روح الإحباط بين أنصار الزعيم الطاعن في السن، إلا أن ذلك لم يمنعه من العودة خارج البلاد في رحلة علاج، وتنظيم صفوف مقاتليه حسب ما أعلن بمساندة من الرئيس أشرف غني، وأمراء حرب سابقين في مزار شريف لصد طالبان عن المدينة التاريخية، ذات الرمزية الخاصة، التي جعلت منها “مفتاح أفغانستان” من يمتلكه تفتح له بقية الأبواب.
لماذا مزار شريف؟
لكن الخبراء في الشأن الأفغاني الذين تحدثت “اندبندنت عربية” إلى العديد منهم لا يعلقون الكثير من الآمال على التحرك الذي يقوده غني ودستم في مزار شريف، بوصف الأوان قد فات، خصوصاً أن ميليشيا أقلية “هزارة” الشيعية في المنطقة المدعومة من إيران في حروب سبقت، أصبحت فيما يتردد معزولة من أي دعم من طهران، على الرغم من استماتتها في الدفاع عن معاقلها، بعد أن نجحت حركة طالبان حتى الآن في كسب موقف طهران، وإن تداول نشطاء أفغان على وسائل التواصل الاجتماعي، ما قالوا إنه حطام طائرة إيرانية مسيرة، أسقطها المقاتلون. كما أن إغلاق الحكومة الهندية قنصليتها في المدينة وترحيل دبلوماسييها، إلى جانب فرار أعداد هائلة من السكان إلى كابول، وفق مراسل “اندبندنت”، بين كثير من المؤشرات إلى تصاعد القلق من سقوط المدينة، أو اندلاع العنف فيها على وتيرة أشد.
على الرغم من ذلك فلا تزال كابول وفقاً لما قال مستشار الرئيس، ذو الحق أمرخيل، تؤمل سنداً دولياً مرة أخرى، للضغط على طالبان “لتسريع عملية التفاوض، وإقناع جيران أفغانستان بأن أفغانستان مستقرة ومزدهرة أفضل لهم وللشعب الأفغاني”.
وتلقي الحكومة باللائمة على باكستان تحديداً التي تتهمها بإسناد الحركة عسكرياً ولوجستياً، إذ يقول النائب الأول للرئيس الأفغاني، أمر الله صالح، على حسابه في “تويتر”، إنه “في آخر 20 يومًا، أكثر من 110 مقالات وتعليقات كتبها الصحافيون والباحثون والمحاربون ذوو السمعة الطيبة في وسائل الإعلام الغربية وحدها. كلهم يقفون إلى جانب الشعب الأفغاني ويشيرون إلى باكستان على أنها (بنية تحتية لدعم طالبان)، إذن من يكذب؟”.
ويقول السفير الأفغاني السابق في السعودية، السيد جلال، إن تفاهم طالبان مع الروس في مرحلة سبقت جعل ظهر الشماليين مكشوفاً، وهو أمر يدفعنا إلى توقع المزيد من السيطرة على الولايات الكبيرة، فالسيناريوهات الثلاثة التي حدثتكم عنها قبل أسبوعين، يبدو أن أحدها طور التطبيق، وهو فرض طالبان الأمر الواقع بقوة السلاح والدبلوماسية، التي أقنعت بها جوار أفغانستان حتى الآن بالحياد، “وما لم يتبدل هذا المعطى الأخير فإن تطويق كابول مسألة وقت لا أكثر”.
وفي جانب آخر من المشهد، يشكل أحد مفاتيح تفسير التطويق الذي تسارع على نحو لم يكن متوقعاً، يتردد أن الأميركيين الذين أبدوا صدمتهم مما يجري على الأرض، كانوا تحدثوا مرات عدة عن ضرورة أن تعتمد القوات الأفغانية على جهودها الذاتية، مما يعني أنهم ليسوا موقنين بقدرة كابول على القيام بكل أعباء الدفاع بمفردها، إلا أنهم مع ذلك تركوها تواجه مصيرها المحتوم، مما دفع محللاً سعودياً مثل خالد الدخيل، إلى الاعتقاد بأن تسليم أفغانستان إلى طالبان جرى في سياق تسوية ومقايضة مع الأميركيين، بغض النظر عما يتردد في وسائل الإعلام، محذراً من تكرار ذلك على نهج مماثل في المنطقة العربية، بانسحاب أميركا من المنطقة والدفع بتسليمها إلى قوى وميليشيات متشددة في العراق وسوريا ولبنان وربما اليمن أيضاً.
سباق مع “الجنرال الثلج”
أما العامل الاستراتيجي الصرف الذي دفع بطالبان إلى استعجال الهيمنة على الحكم في كابول قبل الاتفاق على صيغة سلمية مع بقية القوى، فهو عامل “الطقس”، فمعروف منذ الحروب السابقة أن السيادة على الأرض للمقاتلين الميدانيين، إلا أنهم في أفغانستان مع بداية سقوط الثلوج بعد أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) تكون حركتهم شبه مشلولة، مما يعني أن تأخير معارك لا بد منها على الأرجح بعد الانسحاب الأميركي بالنسبة إلى طالبان؛ من شأنه أن يُدخل “جنرال الثلج” في معادلة الصراع وتختلط حينئذ الأوراق.
وكانت قوات الفرقة الأميركية “ماغر” التي دخلت أفغانستان أول الأمر 2001، سارعت الخطى بالوتيرة نفسها خشية مباغتة الثلوج بعد التاريخ المذكور، مما جعل استراتيجيتها تلك واحدة من خطط الحرب التي يفاخر بها الجيش الأميركي، لدرجة أنه سمح بتحويل وقائعها إلى فيلم، يحكي قصتها كما جرت، في “12 سترونغ”، هم رجال القوة التي شكلت باكورة الغزو الأميركي لأفغانستان، فاستحقت عند رجال البيت الأبيض تخليدها في نصب تذكاري “رجل الخيل” أمام برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، في رمزية تحاكي الواقع، إذ كانت المعارك على الأرض تدار بالخيول فعلياً، وإن كان الإسناد الجوي بواسطة “بي 52” متى ما أمكن ذلك.
المرأة والأقليات
لكن بالنسبة إلى حركة طالبان فإنها كالمعتاد تفسر هذه العجلة بأنها ترجمة ليأسها من إبداء الحكومة في كابول حسن النية في مفاوضات، كان يفترض أن تتفق على حكم البلاد وتنظيم شؤونها بعد خروج المحتل.
وقال رئيس المكتب السياسي لحركة طالبان، الملا بردار أخوند، في بيان حصلت “اندبندنت عربية” على نسخة مبكرة منه بالباشتون اللغة الرسمية لطالبان، قبل تعميمه باللغات الأخرى، إنهم “ملتزمون بحل القضايا من خلال الحوار، وقد أثبتنا ذلك عملياً، والتفاوض مع الولايات المتحدة والتوصل إلى نتيجة ثم استئناف المحادثات بين الأفغان دليل واضح، كما أننا أنشأنا مكتباً سياسياً لأننا نريد حل المشكلات من خلال التفاهم”.
بيد أنه ذكر بأن الهدفين الرئيسين لنضال رجاله، هما “استقلال البلاد وحريتها وهو في طور الإنجاز إن شاء الله، وإقامة نظام إسلامي مستقل وفق قيم الشعب، وهي رغبة الأمة كلها، وقد قدمت تضحيات جسيمة لهذا الغرض على مدى أربعين عاماً”.
وفيما بدا أنه خطاب ألقي في الأصل للمشاركة في مداولات حوار بين الفرقاء في الدوحة، أكد أخوند أن طالبان لا تريد احتكار السلطة، “بل نريد نظاماً إسلامياً مركزياً أفغانياً شاملاً تتاح فيه لكل طبقة من الأمة الفرصة للعمل على أساس الجدارة، خالياً من أي نوع من أنواع الفساد، يجب أن يكون جميع المواطنين سواسية أمام القانون، ولا ينبغي لأحد أن يكون فوق القانون”.
ومع الانتهاكات الجسيمة التي قالت دول عدة ومنظمة الأمم المتحدة إن طالبان متورطة فيها أثناء سيطرتها على المدن الأسابيع الماضية، إلا أن زعيمها السياسي يروي قصة أخرى مغايرة، مضيفاً “نلتزم التزاماً تاماً المبادئ الدولية وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات وحقوق المرأة وحرية التعبير، وكل الحقوق الوطنية في ضوء المبادئ الإسلامية والمصالح العليا للوطن والشعب”، وهو ما تنفيه عدد من المنظمات الدولية وسفارات أجنبية في كابول.
وأضاف “على وجه الخصوص يجب أن أقول إن للمرأة الحق في التعليم، والحق في العمل، والحق في الملكية والتجارة، وستكفل الإمارة الإسلامية جميع حقوقها في ضوء المبادئ الإسلامية والمصالح الوطنية، وكذلك حقوق الأقليات. لا ينبغي لأحد أن يقلق بشأن هذا ولا يقع فريسة للدعاية”.
ولفت إلى أن السيطرة على ولايات الأقاليم بعد التعهد بتجنب ذلك تعود إلى عدم احترام كابول تعهداتها، على حد قوله.