نبيه البرجي-الديار
هل حقاً أن لبنان داخل هذه المعادلة المستحيلة : اما أن يكون مع أميركا أو أن يكون مع ايران؟
لغالبية اللبنانيين، لا مجال للمقارنة بين الحالتين. بعيداً عن السياسات العمياء، السياسات المدمرة، للولايات المتحدة، كل شيء في هذه الأمبراطورية التي لا نظير لها في التاريخ (ولا ما بعد التاريخ) يدعو الى الافتتان. من هارفارد الى سراويل الجينز، ومن هوليوود الى الهوت دوغ، ومن الشبكة العنكبوتية الى الروك اند رول.
دولة فسيفسائية مشرعة الأبواب أمام الذين يبحثون، وبالدرجة الأولى، عن الخيال الآخر. كل حضارات الدنيا، وكل أجناس الدنيا. هذا لا يعني أنها الدولة المقدسة بعدما كان توماس جيفرسون قد قال «ذاك الدستور الذي كتبناه بأصابع الملائكة». ثمة أكثر من أزمة بنيوية. الأشد هولاًالجدار العنصري. آخر مظاهره، منظر الشرطي الأبيض، في ولاية مينيسوتا، وهو يضغط، بركبته، على عنق الزنجي جورج فلويد حتى الموت.
مشكلتنا مع أميركا، أو مشكلة جزء من اللبنانيين، أنها ترى في «اسرائيل»، وبكل تلك السياسات البربرية، الوديعة الالهية. جدلياً الوديعة الأميركية اذا ما أخذنا بالاعتبار مدى تأثير العهد القديم في تشكيل الوعي اللاهوتي لدى المجتمع الأميركي، وحيث يقول الأسقف الكاثوليكي برنارد جويس «لكأن السيد المسيح صلب، مرة أخرى، في أميركا، ولكن من دون قيامة»!
ادوار سعيد لاحظ أن الخلل الايديولوجي، والخلل الاستراتيجي، لدى الادارات الأميركية في أن السياسات حيال الشرق الأوسط تصاغ كما لو أن الولايات المتحدة رهينة في أيدي «الحاخامات». ألا يعني ذلك أننا لو انضوينا تحت المظلة الأميركية لباعت لبنان بأقل من ثلاثين فضة لآرييل شارون أو لبنيامين نتنياهو أو لنفتالي بينيت، وهي التي ترمي حلفاءها في صندوق القمامة مثلما حدث في فيتنام، ومثلما يحدث في أفغانستان.
ايران نموذج آخر. في الغرب يصفونها بـ»دولة الايديولوجيا ذات البعد الواحد».النموذج الذي أثار دهشة الفيلسوف ميشال فوكو، وحيث الدولة الاسلامية التي ترفض التبعية للشرق أو للغرب، أثار كراهية الفيلسوف الآخر آلان فينكيلكروت (وهو يهودي) الذي رأى فيها «الظاهرة الجنائزية التي اذ تمتد جيوسياسياً، في أرجاء الشرق الأوسط، فان غايتها المقدسة هي ازالة اسرائيل من الوجود».
هل هذه هي مشكلتنا أن تكون ايران ضد «اسرائيل»، وحتى ضد وجود «اسرائيل»، وهي التي، بالرغم من الفوارق التاريخية، والثقافية، بيننا وبينها، مدت لنا يد العون لاجتثاث الاحتلال الذي جثم على صدورنا لنحو عقدين. الهدف، كما يظهر اتفاق 17 أيار 1983، تحويل لبنان، بكل ألقه، الى فناء خلفي للهيكل.
تلك التركيبة اللبنانية التي طالما واجهت سلسلة من التصدعات البنيوية، والى حد اندلاع حرب أهلية انتهت بتسوية عرجاء. حتى أن المسار الفلسفي لدستور الجمهورية الثانية الذي يفترض أن يقود البلاد نحو الدولة المدنية، ما لبث أن سقط في الدوامة المذهبية القابلة للانفجار في أية لحظة.
ما زاد في التراجيديا اللبنانية، وحيث طوابير العار، كنتاج للتقاطع بين الحصار الأميركي وفساد المنظومة السياسية، أن الدول العربية، المتوجسة من نوايا آيات الله, اقتربت أكثر فأكثر من الولايات المتحدة، و»اسرائيل»، والى حد ترك لبنان يلفظ أنفاسه الأخيرة دون أن يرف لها جفن.
اعتدنا، وانطلاقاً من المعادلة الغبية «قوة لبنان في ضعفه»،أن نضع أنفسنا بين فكي المستحيل في منطقة الأزمات المستحيلة. ماذا اذا احتدم الصراع بين واشنطن وطهران، وفي ظل الطبقة الرثة اياها ؟
الفضيحة بالثوب الأبيض. اللبنانيون على تخوم العصر الحجري. بيار الجميّل دعانا ذات يوم الى أن نأكل الصخور. أما رئيس الدولة ورئيس الحكومة (المكلف) فهما يمضيان الساعات الطويلة والأيام الطويلة، في الجدل العظيم حول توزيع الحقائب التي أي معنى لها بعدما بات لبنان، وبات اللبنانيون، تحت خط الزمن ؟
ماذا يعنينا، ونحن في قعر الزجاجة، والمقصود في قعر جهنم، أن تتشكل الحكومة أو لا تتشكل، ما دام نجوم الطبقة السياسية، الباقون على ظهورنا الى الأبد، أظهروا عجزاً مروعاً في ادارة (لا في حل) الأزمة؟
توقف عن قول المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه «كل ما يفعله صندوق النقد الدولي أنه يشد الأحزمة على بطون الموتى!!».