إن كان الانهيار سقوطاً حراً، فقد حصل الارتطام فعلاً. كل ما كان يُخشى منه من إجراءات قاسية وصل. يوم 11 آب يوم مفصلي في تاريخ البلد والناس. كل ما رافق الأزمة منذ نهاية 2019 حتى آب 2021 في كفة، وما بعد قرار مصرف لبنان رفع الدعم عن المحروقات سيكون في كفّة أخرى. ذلك القرار أحدث صدمة عارمة، بالرغم من أنه كان منتظراً ومتوقعاً. لكن ما لم يكن متوقعاً أن يتخذ القرار قبل تأمين جهوزية الحد الأدنى لمواجهته. لأكثر من سنة، رُبط رفع الدعم بإقرار البطاقة التمويلية وبدء الاستفادة منها، لكن الواقع كان مخالفاً. ذهب رياض سلامة إلى المجلس الأعلى للدفاع لإبلاغ قراره رفع الدعم. وبالغ في الإشارة إلى أسفه من قرار لا بد منه، بعدما لم يعد يملك الأموال اللازمة. قال: يوجد حلّان لعدم رفع الدعم، إما إقناع المجلس المركزي لمصرف لبنان بالعدول عن قراره، واعداً بأن يصوّت شخصياً ضد رفع الدعم، وإما إقرار المجلس النيابي قانوناً يجيز الصرف من الاحتياطي الإلزامي.
نقل وزير المالية، غازي وزني، هذه المواقف إلى المجتمعين في السرايا الحكومية أمس، من دون أن يكون له أي اقتراح أو موقف من الدعم. طٌلب من وزني أن يتولى التفاوض مع المجلس المركزي، لبحث الخيارات المتاحة لتأجيل رفع الدعم، إلى حين البدء بتنفيذ قانون البطاقة، فرفض. ذهب النقاش إلى اعتبار أن قرار رفع الدعم هو مسألة خلافية. لم يتم التوصل إلى أي قرار. ما صدر صدر، وقد كان رئيس الحكومة، حسان دياب، الذي ترأس اجتماع السرايا أمس عبر تطبيق زوم، واضحاً في ذلك. وبالرغم من إشارته إلى أن «حاكم مصرف لبنان اتخذ هذا القرار منفرداً، والبلد لا يحتمل التداعيات الخطيرة لهكذا قرار»، إلا أن الزبدة في ما قاله هو: «اليوم، سيكون علينا جميعاً، في أي موقع، العمل بكل طاقاتنا من أجل احتواء قرار رفع الدعم وتقليل أضراره الكبيرة».
كل ما جرى أمس يدل على تواطؤ مع سلامة. لكن النفاق كان سيد الموقف. وفيما ربط القرار بتأليف الحكومة، على اعتبار أن الحكومة الجديدة لا تريد أن تشرب كأس رفع الدعم، فإن المؤشرات الآتية من بعبدا كانت تدل على تقدم ملحوظ في المفاوضات مع الرئيس نجيب ميقاتي. وقد اكتفى الأخير بالقول للصحافيين: «إن شاء الله خيراً. وسنتابع الأسبوع المقبل».
الأصرح كان وليد جنبلاط، الذي تولى مهمة تغطية القرار سياسياً. وفي مؤتمر صحافي عقده في كليمنصو، قال إنه «لا مهرب من رفع الدعم، لأن القسم الأكبر من المازوت والبنزين يسرق الى سوريا، يجب موازاة السعر لدينا بسوريا، ومن ثم يجب الاعتماد على البطاقة التمويلية وإلى جانبها على الدول التي تقوم بمساعدة لبنان. فلتتفضل وتعطنا مئة أو مئتي باص للنقل العام». انتهى دور جنبلاط، من دون أن يوضح لماذا بقي الدعم طوال هذا الوقت، ولماذا لم تصدر البطاقة بعد.

رئاسة الجمهورية من ناحيتها، سعت إلى امتصاص النقمة التي ولّدها القرار. وبالرغم من أن الرئيس ميشال عون سمع من سلامة أنه يريد رفع الدعم أثناء اجتماع المجلس الأعلى للدفاع، إلا أنه صباح أمس عاد فاستدعاه لسؤاله عن القرار الذي «له تداعيات اجتماعية واقتصادية خطيرة تنعكس على الصعد كافة، ولا سيما المعيشية منها وحاجات المواطنين اليومية»، لافتاً إلى أن «المجلس الأعلى للدفاع لم يتخذ البارحة أي قرار يتعلق برفع الدعم الذي هو أصلاً خارج اختصاصه».
وانتهى الاجتماع الذي شارك فيه وزيرا المالية والطاقة، بمطالبة عون لسلامة بـ«التقيد بقانون البطاقة الإلكترونية وبالموافقات الاستثنائية المتعلقة باستعمال جزء من الاحتياطي الإلزامي لفتح اعتمادات المحروقات على سعر ٣٩٠٠ ليرة للدولار في أي إجراء يتخذه وبعد التنسيق مع السلطة الإجرائية التي ناط بها الدستور وضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات».
في السياق نفسه، رأت كتلة الوفاء للمقاومة أن «الإجراء الذي اعتمده حاكم مصرف لبنان أخيراً لجهة وقف الدعم لفاتورة المحروقات هو إجراء مرفوض لأنه خارج سياق أي خطة إنقاذية ومخالف للسياسة التي قررتها الحكومة وأقرّها مجلس النواب حين صادق على البطاقة التمويلية التي تدعم العوائل الفقيرة، ودعت إلى تنفيذها قبل أي إجراء آخر يتصل برفع أو تخفيف الدعم عن أي مادة من المواد الحيوية للمواطنين».
بالنتيجة، مرّ نهار أمس كما يأمل سلامة. المواقف الرسمية ظلت مضبوطة إما بالصمت أو بالاعتراض أو بالتأييد. ولولا بعض التحركات الاعتراضية التي شهدتها مختلف المناطق، لكان يوم أمس أشبه بيوم عادي، علماً بأن هذه التحركات وصلت إلى منزل سلامة في الرابية، حيث اصطدم العونيون مع القوى الأمنية.
لم يُسأل سلامة عن الأصل. عن كذبة الاحتياطي الإلزامي التي يتمسك بها، هو الذي لا يبالي بضياع 90 مليار دولار من أموال المودعين. نسي أنه هو نفسه خفض هذا الاحتياطي من 15 في المئة إلى 14 في المئة بشحطة قلم، ويمكنه أن يخفض نقطة إضافية أو نصف نقطة لتأمين المحروقات إلى حين إطلاق البطاقة التمويلية. يريد قراراً من المجلس المركزي، وهو يدرك أن أعضاء المجلس يمثلون أحزاباً سياسية متواطئة معه. وقد قررت رفع شعار حماية أموال المودعين، بوصفه شعاراً شعبياً، متغاضية عن حقيقة أن من يريد حماية الناس ليس عليه سوى إشهار رفضه وقف الدعم، فعلاً لا قولاً، حتى لو أدى ذلك إلى تخفيض الاحتياطي الإلزامي. لكن، بحسب أجواء اجتماع السرايا، الذي شارك فيه الوزراء: زينة عكر، غازي وزني، راوول نعمة، عماد حب الله، ريمون غجر، رمزي المشرفية، حمد حسن، عباس مرتضى ولميا يمين، فإن الاجتماع كان لزوم ما لا يلزم.
وبالرغم من إدراك المجتمعين أن بيانهم لن يغيّر شيئاً في الواقع، فقد توصّلوا إلى ديباجة تراعي مختلف الآراء التي طرحت، وأعلنوا أنهم اتفقوا على: «تحميل الحاكم والمجلس المركزي مسؤولية القرار وتوقيته، ولا سيما أن المصرف يتحمّل ما آلت إليه سياسته المالية والنقدية؛ الاستمرار في سياسة الدعم وترشيده وتحميل الجهات الرقابية والأمنية المسؤولية لإيصال الدعم إلى المواطن، اتخاذ الإجراءات كافة لحماية المجتمع من مثل هذه القرارات التي تحدث نكبة اجتماعية، والبدء فوراً بتطبيق قانون البطاقة التمويلية، يتولى وزير الطاقة وضع خطة لزيادة تغذية التيار الكهربائي حتى نهاية 2021 وتقديم مشروع قانون إلى مجلس النواب لتأمين التمويل لهذه الخطة».
زيادة التغذية ستكون عملياً الحل الوحيد للإبقاء على الحد الأدنى من الكهرباء في المنازل. فكل التوقعات تشير إلى أن قطاع المولدات الخاصة سينهار في حال رفع الدعم عن المازوت، لأن قلة ستكون قادرة على تحمّل كلفة الفاتورة. فمع تقديرات بأن يكون سعر صفيحة المازوت 250 ألف ليرة، ستصل فاتورة المشترك بخمسة أمبير، والذي تراوحت فاتورته بين 500 ألف ومليون ليرة الشهر الماضي، إلى ما بين مليونين و4 ملايين ليرة. فإذا كان سعر الكيلو واط 1975 ليرة على سعر 57 ألف ليرة للصفيحة، يتوقع أن يرتفع إلى 8000 ليرة بعد رفع الدعم. وهذا يعني أن كثراً لن يتمكنوا من تسديد فاتورتهم، وبالتالي قطع الاشتراكات.

ما زاد من الأزمة أمس أن محطات المحروقات التزمت إغلاقاً شبه تام في سعي منها إلى تحقيق أرباح طائلة وغير مشروعة من جراء فارق السعر بعد تحديد وزارة الطاقة للسعر غير المدعوم. وبالرغم من أن الوزارة كانت قد أكدت أن جدول الأسعار الجديد سيصدر أمس، إلا أنها عادت وتراجعت عن ذلك، في قرار لن يغيّر في الواقع شيئاً، بل جلّ ما يهدف إليه هو جعل الناس يستوعبون الصدمة أولاً، وجعل إصدار جدول الأسعار، مهما كانت، مطلباً شعبياً! وقد عُلم أن وزير الطاقة أبلغ الحاضرين في اجتماع السرايا أنه يوجد نحو 60 إلى 70 مليون ليتر بنزين ومثلها من المازوت مخزنة، وتم التوافق على وجوب بيعها في السوق على السعر الحالي، علماً بأن هذه الكمية لن تكفي لأكثر من أربعة أيام. وفي بيان لها، أوضحت مديرية النفط في الوزارة أن «جدول تركيب الأسعار الذي صدر يوم الأربعاء هو السائد والملزم للمنشآت والشركات والمحطات معاً في عمليتَي البيع والتوزيع. كما أكدت أن أسعار المحروقات التي يتم تداولها عبر وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي ليست دقيقة، بل هي عمليات احتساب مبنية على افتراضات». لكن ذلك لن يغيّر حقيقة أن وزارة الاقتصاد ومن خلفها القوى الأمنية لن تقوم بواجباتها لإلزام المحطات والموزعين ببيع المحروقات، ما سيؤدي إلى زيادة الطلب بشكل كبير.
وبحسب المعلومات، لكي يصدر الجدول فإن وزارة الطاقة تحتاج إلى توضيحات من المصرف المركزي. فهو في بيانه أشار إلى أنه سيفتح الاعتمادات على «أسعار السوق»، إلا أنه لا يملك حتى اليوم أي منصة لتحديد هذا السعر، كما لن يكون سهلاً أن يعترف لأول مرة بسعر السوق السوداء. وقد أشيع أمس أن سلامة سيعتمد سعر منصة «صيرفة»، من دون أن يحدد سعرها، إن كان على سعر ١٢ ألف ليرة أو ١٨ ألفاً أو أي سعر آخر. لكن بحسب المعلومات، فعند تواصل وزارة الطاقة ومستوردي النفط مع المصرف المركزي، كان هناك إصرار على اعتماد سعر السوق، من دون أن يشار إلى أي آلية لتحديد هذا السعر. وإلى أن يحسم المركزي أمره، فإن الشركات لن تتمكن من فتح اعتمادات، كما لن تتمكن «الطاقة» من إصدار جدول الأسعار، ما يؤشر إلى أيام من دون بنزين أو مازوت، إذا لم تتولّ القوى الأمنية بنفسها فتح الخزانات والمحطات، أو أن يلجأ السكان إلى مصادرة المحروقات المخزّنة، أسوة بما جرى في طرابلس ليل أمس، حيث عثروا في خزانات إحدى الشركات على كمية هائلة من المازوت، قرر مقتحمو الشركة توزيعها على مولدات الكهرباء.