“ما بعرف إسمك، رح سميك ’صاحبي’”، عبارة متداولة على الجهاز (اللاسلكي) بين المقاتلين.
“بهذه الاسلحة البسيطة هزمنا الارهاب واسرائيل، نقارع جيوشًا جرارة…”
“العز للي طلع بالكاميرا ويلي بقي شنق حالو”
“يا ١٠١ يا ١٠١.. معك عالسمع”.
وهكذا امتلأت جدران التواصل الاجتماعي على كل المنصات بالمحتوى الثوري الخفيف والسريع، وتحول بسرعة النار في الهشيم إلى مادة كالسيل تجرف معها كل الأباطيل، وذلك قبل نشرة الأخبار وقبل الموقف الرسمي الذي لم يتعدَّ “وما النصر إلا من عند العزيز الجبار” في بيان المقاومة الإسلامية.
احتشد آلاف المقاتلين الجدد وأيضًا بالسلاح الفردي البسيط ليسجلوا موقفًا وليرووا لنا ما جرى وليصححوا بعض الأخطاء الفردية هنا وهناك، وليقولوا للعالم “وإن كنا قلة فنحن نعرف مسيرنا ووجهة صواريخنا وبائع التين لدينا أيضًا مقاتل فهو صاحب هذه الأرض التي حمته وحماها”.
قبل أسابيع قليلة من هذه الحادثة، مرت مناسبة يوم القدس متواضعة، فبعد أن نجح بعض العملاء التافهين في حذف الاستعراض العسكري للمقاومة في بيروت، لم يستطع أن يمنع صاروخًا واحدًا أو يغير وجهته. جاءت عملية سيف القدس بعد أيام قليلة في آخر أيام شهر رمضان المبارك هذا العام لتشعل فلسطين كل فلسطين وتشعل أهم عواصم العالم من دون خطة ومن دون مُخرج ومن دون غرفة عمليات.
صراحة ما في داعي، إذ إنه لم تنجح غرف العمليات الإعلامية في المحور إلا في صيانة الموقف الرسمي، ونقل الخبر الصحيح النهائي ولو متأخرًا، أما إدارة الشبكات العامة والخاصة والفردية فنجاحاتها ما زالت محدودة، في حين أن جمهور المقاومة أبلى بلاء حسنًا في أجمل المحطات وأصعبها، ومشاهد التحرير عام ٢٠٠٠ خير دليل على ذلك.
تمتلئ اليوم صفحات التواصل الاجتماعي بالانجازات الشعبية وهي نجاح إعلامي ودليل على وعي الجمهور واتصاله المباشر بالقيادة دون وسيط. نجاح إعلامي لأن المادة التي انتجتها هواتف الجمهور وتحولت إلى نقل مباشر لأهل الأرض كانت المصدر الأول للمعرفة، بل المؤثر الأول على الرأي العام واتجاه المعركة؛ فنحن كجمهور بعيد عن الحدث الميداني بشكل مباشر ومع التعتيم الاعلامي العالمي غاب عنا كثير من المعلومات عن الميدان كداخل فلسطين مثلًا. أما في الايام القليلة لمعركة سيف القدس فقد عرفنا كثيرًا عن أهلنا في فلسطين وعن جمهورها حول العالم، عن ناس سكتوا ٦٠ عامًا واليوم قاموا، عن عصابات غذاها الصهيوني لتقاتل بعضها بعضًا فإذا بها تخرجه من بلدتها في ليلة واحدة. وقصص كثيرة أخرى عرفناها من خلال الناس.
وعي الجمهور لأن المحتوى أنتجوه بأنفسهم. برأيي طوال التاريخ كان الناس في المجتمعات الحرة والأبية هم صانعي محتوى بأشعارهم ومواقفهم وأحاديثهم في اللقاءات العامة. في لبنان وفلسطين والعراق واليمن نشهد انتاجًا يتطور كل يوم وإن لم تستطع وسائل الإعلام الرسمية مواكبته وحمايته كما يجب أن تفعل.
مجتمع اليوم أكثر اتصالًا بالقيادة بشكل مباشر من أن يكون عبر تنظيم هنا أو هناك أو أن يرجع لمندوب عن القيادة ليعرف المطلوب. قيادة محور المقاومة تتواصل مباشرة مع الجمهور وخطابها ليس إعلاميًا بل هو بناء وتثقيف وتربية وصناعة.
سماحة السيد حسن يخاطب جمهوره في شتى المواضيع منذ ٣٠ عامًا تقريبًا، ويتوجه بأشكال متعددة لجمهوره، وحصل على نتائج مبهرة خلال هذه العقود. كذلك في فلسطين واليمن والعراق، فإن مجتمع المقاومة الذي نهض وأخاف نتنياهو أكثر من الصواريخ وعبرت عنه قياداته المهزومة بأن الضغينة والحقد ما هما إلا وعي جمهور أصبحت أذنه متصلة بفم القائد وأصحاب المنابر الحرة أينما كانوا. لهذا تعاطف المجتمع العالمي كما المجتمع الداخلي في فلسطين وقدموا للعالم مشهدًا من الحرية كنا قد حرمنا منه ويئس البعض من تكراره منذ زمن.
أما في حاصبيا لبنان، فقد كنا في اللحظات الأولى أمام فضيحة، فقد صور الاعلام الالكتروني المشهد في اللحظات الأولى أن الأهالي اعترضوا سيارة تحمل منصة صواريخ بعد أن قصفت العدو ردًّا على قصفه داخل لبنان قبل يومين.
قرية شويا ومنطقة حاصبيا محاذيتان لفلسطين، ويعرف أهلها ما يعني الاحتلال والفرق بين المقاومة والعملاء. ولأن الفاعل كان خطط لنقل مباشر لمشهد إهانة الأهالي لشباب المقاومة تفاجأ بردة فعلهم ودفاعهم وأصبح يطالبهم بالاعتداء على المجاهدين وسياراتهم. لكن بعد ساعات امتلأت الصفحات بمعركة متقابلة بين اتباع المقاومة وعملاء اسرائيل والسفارة الأميركية في بيروت قائدة كل الفساد في لبنان.
بل أكثر من ذلك فإن الرواية كتبها الناس قبل الإعلام الرسمي، وبعض العبارات كانت هي التي حسمت الأمر لصالح المقاومة؛ فجمهور المقاومة كان مبادرًا وتقدم مسرعًا ليستوعب ما حصل، وأصبحت الرواية بيد المجاهدين من أصحاب الأقلام، واختصر المشهد عدة صور:
- الراجمة التي أطلقت الصواريخ وقد عادت إلى مركزها أمام أعين الناس لأول مرة، وتحولت إلى لوحات وتصاميم.
- صورة الشاب الذي فضحته الكاميرا قلقًا عاد إلى بيته في عرس لم نعرفه إلا في عودتهم شهداء.
- وبعض كلمات حددت الموقف والرواية ببساطة المجاهدين وأسلوبهم، لقد كتبوا فقرة صغيرة من تاريخنا الحقيقي الذي لم يكتب، فاكتب أيها المقاتل واكتب واكتب، انها الحقيقة، انهم البسطاء والطيبون الذين صمدوا وغلبوا. سلمت يد على الزناد ويد على القلم. فهذه الكلمات البسيطة تكمل المشهد الرائع.
أذكر أنني كنت مع رفاق لي في أحد الأحراش الدرزية عام ٢٠٠٣، عندما هجم علينا عدد من أهالي القرية بعد منتصف الليل وقد كنا بلباس مدني نتجول هناك، وجاؤوا بسيارة لنقلنا إلى الشرطة، فاستمهلتهم طالبًا السماح بجملة واحدة وبعدها نقبل أي شيء يطلبونه، فوافقوا بغضب شديد. كنت قد فهمت من بعض عباراتهم أنهم ظنوا بنا سوءًا واعتبرونا لصوصًا أو مدمنين، وكان الوقت ليلًا ووجوهنا غير واضحة، فقلت لهم: نحن من حارة حريك من الضاحية الجنوبية من جماعة السيد حسن نصر الله والآن أنا بأمركم فافعلوا ما شئتم، ومددت كلتا يديّ لهم، فرموا ما بأيديهم من خشب وحديد وكانوا قد أصبحوا ٧ أشخاص، ولم تنته تلك الحادثة إلا بفنجان قهوة “بالقاف” بلهجتهم الخاصة اللطيفة.
بعد مجيء شبكات التواصل الاجتماعي أصبح المشهد مختلفًا قليلًا، فالفرصة التي أصبحت مساوية للإعلام الرسمي والشعبي أصحبت سلاحًا ذا حدين. لذا نرى اليوم أخطاء كثيرة في الحسابات الالكترونية، لكن يومًا بعد يوم بات يعرف الجمهور أن هذا الحضور ليس نزهة وعندما يتجاوز صور السلفي في المطعم والأطفال والمناسبات الاجتماعية فإنه يصبح خطرًا. على أمل أن تُسجّل أفضل المواقف في الإعلام الاجتماعي ويتحول إلى فاعل حقيقي.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع