طهران تريد تصعيداً و”حزب الله” يتجنب الحرب بعمليات “مدروسة”
وليد شقير
تقع على “حزب الله” مهمة صعبة في إقناع اللبنانيين بأن موجة التصعيد العسكري المدروس، التي شهدها الجنوب تتعلق فعلاً بهدف الرد على القصف الإسرائيلي الجوي لمناطق مفتوحة في منطقة الجرمق، وأنها لتكريس قواعد الاشتباك، التي تبين أنها متحركة وليست ثابتة بدليل استخدام إسرائيل الطيران، واضطرار الحزب إلى استخدام سلاح الكاتيوشا القليلة الدقة من أجل رمي مناطق خالية من الجيش الإسرائيلي لتجنب إصابة جنوده.
يملأ الفضاء السياسي اللبناني قناعة، سواء صحت أم أخطأت، بأنه جرى افتعال تلك الموجة التصعيدية لأهداف أخرى غير الرد على اعتداء إسرائيلي. ومفتاح هذه القناعة عند من يؤمنون بها يكمن في الصاروخين المجهوليّ الهوية اللذين أطلقا على شمال إسرائيل يوم الأربعاء في 4 آب، واللذين لم يتبناهما أي فصيل فلسطيني أو “حزب الله”، واللذين استدرجا إسرائيل للرد بقصف الطيران فجر الخميس، فكان ذلك حجة الحزب من أجل أن يرد بدوره، عبر إطلاق 20 صاروخاً يوم الجمعة. بات يصعب إقناع الرأي العام اللبناني، والوسط السياسي بأن إطلاق تلك الصواريخ المجهولة الهوية التي تستدرج عادة رداً إسرائيلياً، ومن ثم رداً من الحزب على الرد، هي غير مجهولة في الواقع بل إن الحزب يقف وراءها لخلق دينامية القصف والقصف المضاد، على أن يكون مضبوطاً، على رغم المخاوف في كل مرة، من أن تفلت الأمور عن السيطرة.
هناك من وما تسبب، عن سابق تصور وتصميم بهذا التطور للأحداث وأدى إلى تواترها في شكل محسوب نسبياً، والقصد منه توجيه رسائل سياسية بالنار، إلى الداخل والخارج، في ظل التعقيدات الكثيرة التي تتحكم بالساحة السياسية اللبنانية، من جهة، وبالساحة الإقليمية من جهة ثانية. لكن فريقي التصعيد أي الحزب وإسرائيل لا يريدان الانزلاق نحو الحرب. هذا ما أعلنه القادة الإسرائيليون وخصوصاً وزير الدفاع بني غانتس الذي أكد أن جيشه سيقابل التهدئة بالتهدئة في معرض تهديده بأنه نصح “حزب الله والجيش وحكومة لبنان ألا يختبرونا”.
قد تكون قيادة الحزب أخذت في حسابها التطمينات التي قدمها غانتس إلى كبار المسؤولين الفرنسيين حين زار باريس في 28 تموز الماضي للبحث في فضيحة التجسس ولنفي استعمال بلاده تطبيق “بيغاسوس” من أجل التجسس على الرئيس إيمانويل ماكرون. فالمسؤولون الفرنسيون أثاروا معه وجوب ضبط الوضع في جنوب لبنان وحذروا من أن الوضع في لبنان هش وعلى إسرائيل تجنب أي مواجهة عسكرية مع الحزب فيه. وكان جواب الوزير الإسرائيلي أن لا خطط لدى تل أبيب لحرب على لبنان، وأن المناوشات التي تحصل أحياناً هي نوع من الاشتباك التكتيكي.
ما لم يكن محسوباً هو أن يستخدم الجانب الإسرائيلي الطيران للمرة الأولى منذ سنوات، منبئاً بهذا الأسلوب بأن حكومة تل أبيب اليمينية قد تلجأ إلى حجم من الردود غير تلك التي اعتادت عليها الجبهة الجنوبية. فالطيران يرمز إلى نية التدمير، مع أن الغارات الجوية ركزت على منطقة سبق أن استخدمها الحزب للتموضع بعد حرب 2006 وتشكل صلة وصل بين الجنوب والبقاع الغربي، وبات تواجده فيها أقل من السابق، بعد أن أعاد تركيز وجوده في المناطق الجنوبية الواقعة تحت ولاية القرار الدولي الرقم 1701 . أي أنه حتى استخدام الطيران كان محسوباً من الجانب الإسرائيلي، لأنه لم يرمِ صواريخه على أهداف عسكرية ومناطق مأهولة.
توزعت قراءة الأوساط اللبنانية في تقديرها لأسباب افتعال الحزب لهذا التصعيد بين من ينسبه إلى سبب داخلي، أي حاجة “حزب الله” إلى أن يحرف الأنظار عن الحملات عليه في ذكرى 4 آب، والتي تتهمه بالتسبب بانفجار نيترات الأمونيوم في العنبر الرقم 12 في المرفأ، أو بالتستر على وجود هذه المواد المتفجرة، وبين من يعيد أسباب التصعيد إلى حاجة إيران لتصعيد التوتر على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية أسوة بالتصعيد في اليمن وضد المملكة العربية السعودية، وبعرقلة الحلول في سوريا، في سياق التشدد من قيادتها في وجه إدارة الرئيس جو بايدن. فالأخيرة لم تعد تبدي استعداداً لرفع العقوبات في مفاوضات فيينا، من دون إضافة بندين على إحياء الاتفاق النووي على أسس جديدة، هما برنامج طهران للصواريخ الباليستية ودورها الإقليمي الذي تعتبر واشنطن أنه يمس باستقرار دول حليفة. وهو ما أعلن المرشد علي خامنئي رفضه.
ويتحدث بعض الأوساط في بيروت عن أن طهران تأمل من الحزب تصعيداً يجبر الولايات المتحدة على التسليم بشروطها، لأنها تريد تجنب أي حرب في المنطقة، فيما تدرك قيادة الحزب في لبنان أن افتعال مواجهة مع إسرائيل تسقط البلد في أتون مأساوي يزيد وضعه الكارثي سوءاً. فأي مواجهة عسكرية واسعة متعذرة في ظل ما يعانيه البلد من نقص في المحروقات الذي يحد من التنقلات، ويعطل الكهرباء، وفي الأدوية والمستلزمات الطبية، التي تنوء تحت صعوبة المرضى العاديين، فكيف بجرحى الحرب والقصف الإسرائيلي إذا دامت أياماً؟ وكذلك النقص في المواد الغذائية وتوفيرها في وقت يعيش أكثر من نصف اللبنانيين في حالة الفقر، فكيف تكون أحوالهم في ظل أي مواجهة عسكرية تعطل كل شيء في البلد؟
ولعل هذا ما دفع غانتس إلى القول: “الوضع في لبنان مريع، ويمكننا جعله أسوأ”.
لكن هناك من يرى أن العامل الخارجي الذي سبب التصعيد جنوباً لا يتعلق بالرسالة التي تريد طهران إبلاغها إلى واشنطن حول مفاوضات فيينا، بل بمستجدات فصول الاشتباك في مياه الخليج وآخرها اتهام طهران باستهداف ناقلة النفط “ميرسر ستريت”، التابعة لشركة إسرائيلية في بحر عُمان والتي أعلنت القيادة العسكرية الأميركية أن المسيّرات التي استهدفتها انطلقت من الساحل الإيراني والمسيّرة الثالثة هي التي أصابتها وتسببت في ثقب فيها وبمقتل بريطاني وآخر روماني على متنها. فالجانب الأميركي توعد طهران بالرد، وبريطانيا تشارك في تبلور موقف دولي ضد هذه الحادثة بالذات، وسط أنباء عن ضوء أخضر غربي لإسرائيل يتيح لها تحت حجة “الدفاع عن النفس”.
وفي وقت تحدث الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله ليل السبت في ذكرى حرب تموز، فإن تبرير ما حصل في الجزء الأكبر من كلمته ركز على لهجة دفاعية في وجه الحملات التي تطال حزبه سواء ضد سياسته الداخلية أو حيال مواصلته رهن لبنان بالمحور الإيراني. فالتصعيد تسبب بردة فعل رافضة للتورط بأي عمل عسكري في ظل الأوضاع الكارثية التي يعيشها البلد،جاءت مؤذية للحزب، كما حصل في بلدة شويا.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع