سميح صعب
التعثر في مفاوضات فيينا لإحياء الإتفاق النووي بين إيران والقوى العالمية، يدفع بالشرق الأوسط مجدداً إلى حافة الهاوية.
“حرب الظل” بين طهران وإسرائيل خرجت إلى العلن أو كادت. يمتد التوتر من أعالي البحار إلى الحدود الجنوبية للبنان، من دون إغفال عودة الإشتباكات إلى درعا السورية. وإذا أردنا التوسع أكثر لا يمكن القفز على وطأة التأثيرات التي ستترتب على إيران، من جراء العودة السريعة لحركة “طالبان” إلى الإمساك بأفغانستان. قبل أيام، قال وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس إن إيران في حاجة إلى عشرة أسابيع للحصول على مواد إنشطارية كافية لصنع قنبلة نووية. هذا مؤشر إلى أن الأسابيع المقبلة ستكون مفعمة بالغليان في المنطقة. ولعبة “التصعيد المضبوط” و”المعارك بين الحروب” باتت تنطوي على مجازفة أكبر في أن تجرف جميع الأطراف إلى آتون حربٍ شاملة.
في 20 حزيران/يونيو الماضي، افترق المفاوضون في فيينا بعد جولة سادسة، في انتظار تسلم الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي مهام منصبه رسمياً وتعيين حكومة إيرانية جديدة ستنحو بطبيعة الحال منحى متشدداً في مسار المفاوضات، وستكون أكثر إنسجاماً مع محلس الشورى الذي لا يعوّل على المفاوضات مع واشنطن ولم يوفر فرصة في إطلاق سهام الإنتقاد إلى الرئيس السابق حسن روحاني لقبوله بالإتفاق النووي عام 2015، والموافقة على وضع قيود على البرنامج النووي.
وحتى الآن لم يجرِ تحديد موعد جديد لجولة سابعة في فيينا، مما عزز التكهنات بوجود عقبات كأداء، لن يكون سهلاً على الجانبين الأميركي والإيراني على حد سواء، تجاوزها. إيران تطالب بضمانات ألا ينسحب أي رئيس أميركي يخلف جو بايدن من الإتفاق النووي في حال إحيائه، وهذا التزام ليس وارداً في حسابات البيت الأبيض. وواشنطن تريد أن يكون الإتفاق منطلقاً لإتفاق أشمل يطاول البرنامج الصاروخي والدور الإقليمي لطهران في المنطقة، وهذا بدوره ليس وارداً في حسابات إيران.
إيران تطالب بضمانات ألا ينسحب أي رئيس أميركي يخلف جو بايدن من الإتفاق النووي في حال إحيائه، وهذا التزام ليس وارداً في حسابات البيت الأبيض
ويتعرض بايدن لضغوط قوية من أعضاء الكونغرس الجمهوريين وبعض الديموقراطيين ومن الحكومة الإسرائيلية، كي لا يحيي إتفاق 2015 وفق نسخته الأصلية ومن دون أخذ تعهدات جديدة من طهران. وبعد الجولة السادسة، أكثر وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، من إطلاق ما يشبه التحذيرات لإيران، بتكراره بأن واشنطن ليست مستعدة للتفاوض “إلى ما لا نهاية” في فيينا. وفي المقابل، تستخدم إيران الوقت عاملاً ضاغطاً على أميركا، لا سيما أن مخزون الأورانيوم المخصب بدرجة نقاء 60 في المئة يزداد يومياً، وتالياً تتضاءل فرص العودة إلى الإتفاق.
والغموض الذي يكتنف مصير مفاوضات فيينا، حمل المفاوض الروسي ميخائيل أوليانوف على عدم توقع انعقاد الحولة السابعة قبل أيلول/سبتمبر أو تشرين الأول/أكتوبر، بينما تتركز الأنظار على وزير الخارجية الجديد الذي سيختاره رئيسي وعلى الوفد المفاوض. وبحسب وكالة “بلومبرغ” الأميركية، فإن مسؤولين أميركيين وأوروبيين يحذرون من أن “التأخير لمدة طويلة قد يغلق الباب أمام المفاوضات بشكل كامل”.
وبدأت التساؤلات تتعاظم حول ما إذا كانت التطورات الإقليمية المتسارعة في المنطقة، هي انعكاس للتعثر في فيينا، أم هي من قبيل ممارسة الضغوط للتسريع بالتوصل إلى اتفاق؟
في 3 آب/أغسطس الجاري، نُسب إلى إيران الهجوم بطائرة مسيرة واحدة على الأقل على ناقلة النفط “ميرسر ستريت” التي تملكها اليابان وتديرها شركة يملكها رجل الأعمال الإسرائيلي إيال عوفر وترفع علم ليبيريا قبالة سواحل سلطنة عُمان، ما أدى إلى مقتل رجل أمن بريطاني والقبطان الروماني.
وسارعت إسرائيل وواشنطن وبريطانيا إلى اتهام إيران التي لم تعلن قط رسمياً مسؤوليتها عن الهجوم، بينما بثت قناة “العالم” الإيرانية، أن الهجوم كان رداً على غارة إسرائيلية الأسبوع الماضي على مطار الضبعة السوري، ما أسفر عن سقوط ضحايا إيرانيين. وكتبت صحيفة “كيهان” المحسوبة على التيار المتشدد، أن الناقلة الإسرائيلية كانت “سفينة تجسس”.
“حرب الظل” بين إيران وإسرائيل ليست بالأمر الجديد، لكن هذه المرة الأولى التي يسقط فيها قتلى بينما كانت الأحداث المماثلة في السابق تقتصر على الماديات. وفي العامين الأخيرين، شنّت إسرائيل 10 هجمات على الأقل على سفنٍ إيرانية، بينما ليس معروفاً عدد الهجمات التي استهدفت بها إيران سفناً إسرائيلية.
وقبل ساعات من بدء مفاوضات في فيينا في 6 نيسان/أبريل الماضي، هاجمت وحدة كوماندوس إسرائيلية تابعة للبحرية الإسرائيلية سفينة عسكرية إيرانية. وفي اليوم التالي قال رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو إن “الإتفاق مع إيران الذي يهدد بتدميرنا لن يكون ملزماً لنا”. وتصاعدت الهجمات الإسرائيلية على نحوٍ ملحوظ بعد هزيمة دونالد ترامب في الإنتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. ونتيجة لذلك بدأت الزوارق السريعة للحرس الثوري بمرافقة الناقلات الإيرانية في البحر الأحمر ومن ثم تسليم هذه المهمة إلى البحرية الروسية التي كانت تواكب هذه الناقلات من مسافات بعيدة في البحر المتوسط. ونفذت إسرائيل هجوم نيسان/أبريل في وقت كانت السفن الروسية بعيدة جداً بحيث لم تتمكن من الرد، وفق ما جاء في موقع مجلة “سلايت” الأميركية الإلكترونية.
هذا المناخ المشحون بالتوتر الذي رافق تنصيب رئيسي، واندفاع الولايات المتحدة بعد الهجوم على “ميرسر ستريت” لحشد الحلفاء مجدداً للرد على الهجوم حتى ولو بالطرق الديبلوماسية، لن يكونا عاملاً مساعداً على فتح ثغرة في مفاوضات فيينا والتوصل إلى اتفاق
ويبدو أن الجانبين الإيراني والإسرائيلي حرصا على تقليل الخسائر التي كانت تلحق بالسفن المستهدفة، ومن دون تبني رسمي للهجمات. ومؤخراً، صرح المحلل العسكري القريب من الحرس الثوري حسين دلريان لصحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية “إننا في حرب لكن بأنوار مطفأة”. أما موقع “المونتيور” فنقل عن ما وصفه بمصدر ديبلوماسي إسرائيلي رفيع المستوى، أن إسرائيل تعتمد إستراتيجية “التصعيد المضبوط”. لكنه أضاف “ان المشكلة تكمن في أن القدرة على ضبط التدهور محدودة، ومن الممكن أن تجد نفسك منجرفاً عميقاً في حرب في أي لحظة، من دون أن يكون قصدك الذهاب إليها”.
هذا المناخ المشحون بالتوتر الذي رافق تنصيب رئيسي، واندفاع الولايات المتحدة بعد الهجوم على “ميرسر ستريت” لحشد الحلفاء مجدداً للرد على الهجوم حتى ولو بالطرق الديبلوماسية، لن يكونا عاملاً مساعداً على فتح ثغرة في مفاوضات فيينا والتوصل إلى اتفاق. بل على العكس هذا يضع فيينا في عنق الزجاجة ويقضي على ما تبقى من فرص لإحياء الإتفاق ورفع العقوبات عن إيران وتوفير أجواء إقليمية مريحة، كانت تلوح مع بدايات الحوار السعودي – الإيراني والمساعي الديبلوماسية لحل سياسي في اليمن. وإذا كان بايدن مقتنعاً فعلاً بأن خطة العمل الشاملة المشتركة، هي الوسيلة الأفضل لمنع إيران من الحصول على السلاح النووي، لماذا تأخر في بدء المفاوضات – غير المباشرة – مع حكومة روحاني، ولماذا لم يأخذ باقتراحات أوروبية وروسية من أجل خطوات متزامنة تتضمن رفعاً تدريجياً للعقوبات مقابل عودة إيرانية تدريجية إلى التزام مستويات التخصيب الواردة في الإتفاق الأصلي؟ الأمور اليوم أكثر تعقيداً ونافذة الفرص أضيق أمام نجاح المحاولات في فيينا، والحرب قد لا تبقى في “الظل”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع