البيان الموجز الذي لم يتجاوز الأسطر القليلة قال الكثير، وتضمن ما هو أبعد من الإفهام المباشر بأن لا عودة إلى الوراء. وهذا الأبعد، وهو ما فهمه قادة الكيان جيداً وأدركوا مغازيه، يشمل أن على إسرائيل «الجديدة» أن تتعايش مع حقيقة الارتداع الشامل والكامل، وأن تتوقف عن التفكير بأي محاولة للعبث أو التهور. لأن من شأن العبث أو التهور، وهو ما طبع رسالة التجرؤ الإسرائيلي، بوهم الفرصة اللبنانية السانحة للتفلت من معادلات باتت أصلب من الفولاذ، أن يفضي إلى معادلات جديدة أقسى وأصعب، لا أقلها تصديع كامل البنيان الإسرائيلي وزلزلة أساسات الوجود المصطنع برمته.
البيان الموجز الذي لم يتعد مهر الردّ بالتوقيع اللبناني الواضح والناصع أكّد، أيضاً، على ما هو مؤكد ومعروف، لإسرائيل قبل غيرها، لجهة انتهاء زمن العربدة والعدوان المجانيّين. فالمقاومة التي أنهت «الزمن الإسرائيلي الجميل» معنية، أيضاً، بوأد الأوهام الإسرائيلية، أولاً، وتالياً، العربية والدولية المتجددة الساعية إلى استعادة المبادرة التي صار واضحاً للجميع أنه ما عاد بالإمكان استعادتها أبداً. فالواقع أن هناك ثمة ما انتهى وثمة ما يوشك على الولادة! وهذا هو أحد المضامين غير البسيطة لرسالة الردّ، والقوة اللبنانية، التي أحسن العدو فهم مضمونها المركب جيداً، وفرضت عليه، كما العادة، التراجع، وإعلان تنصله من محاولة العبث بقواعد الصراع الحاكمة، من خلال قوله إنه غير معني بالتصعيد، في إخراج رديء ومذلّ دلّ على مقدار الرعب الإسرائيلي الذي لا يني يتعاظم ويتعاظم.
إسرائيل اليوم، هي إسرائيل التي لا حول لها ولا قوة. وهي إسرائيل التي يأكلها الخوف والقلق. إسرائيل اليوم هي إسرائيل التي تراقب التحولات بفزع شديد لم تعرفه طوال تاريخها القصير. لكنها، وبخلاف الماضي «البهيج» لا تملك إلا التسليم والتعايش معها، لأن من شأن التمرد على حقائق القوة التي فرضتها المقاومة أن يفضي إلى مشهد قيامي لا مكان فيه لإسرائيل ولا لرعاتها أو خدمها الجدد من أهل الجزيرة العربية الذين يوغلون في الخيانة والصفاقة حداً بات يحرج رعاتهم الغربيين، وهو ربما ما يدركه الإسرائيليون أكثر من غيرهم.
الردّ اللبناني الواضح والحاسم والدقيق، شكلاً ومضموناً، وما تلاه من تراجع إسرائيلي، يشي بافتتاح زمن جديد، ستكون له تداعياته الإسرائيلية والعربية والدولية، ويهيء لمسار غير عادي ينتظر هذا الكيان الذي لم يعد بقادر على الفهم أو التصرف. وهذا ما لم يكن ممكناً لولا أن هناك من بادر، نهايات القرن الماضي، وأخذ القرار الكبير بحمل الراية ودفع الأكلاف الباهظة التي لا بد منها وصولاً إلى استعادة الكرامة، أو صنعها.
إنها عظمة هذه المقاومة التي أحسنت البناء وأجادت الفعل وأتقنت العمل. إنها المقاومة التي بنت على صخر المواقف وحديدية التنظيم وعبقرية الفهم وذكاء الإدارة وصلابة الإرادة وجرأة القرار وصدق العطاء ونبل البذل وصحة الموقف وأخلاقية المواجهة وعدالة القضية…
رسالة القوة اللبنانية، والارتداع الإسرائيلي المؤقت لا يلغي احتمالات المواجهة المفتوحة التي ربما لن تتأخر. فالعدو يعيش ضيقاً وجودياً متعاظماً يفرض عليه، من جملة ما يفرض، تجديد المحاولة واقتناص الفرص التي يتوهم وجودها بالبناء على الضيق اللبناني وتداعيات الحصار الغربي المفروض على كامل البلد.
يبقى أن «الكومبارس» اللبناني والعربي الذي يواصل ألعاب التشويش، من خلال الاستثمار المجرم في أوجاع الناس، على نحو مشهدية ذكرى الرابع من آب لن يكون بأذكى من أسياده الذين يرتعشون خوفاً وقلقاً، وعليه أن يدفع الثمن المضاعف جراء ارتهانه وأوهامه التي لا علاج لها. وهي الأوهام التي أوقعت بالبلد وناسه في مهاوي الفقر تنفيذاً لمهمات الإلهاء والإرباك وتهشيم المناعة…