خيرالله خيرالله –
كان تفجير مرفأ بيروت تفجيراً للبنان وللنظام السياسي فيه. يعبّر التفجير أيضاً عن رغبة دفينة في القضاء على بيروت كي لا تقوم لها قيامة يوماً. لا يمكن فصل التفجير الذي مرّت عليه سنة عن محاولات كبار المسؤولين، على رأسهم رئيس الجمهوريّة ميشال عون ورئيس مجلس الوزراء (المستقيل) حسّان دياب، لفلفة الجريمة بطريقة أو بأخرى. كذلك، لا يمكن فصله عن مدى الحقد على بيروت وعلى كونها ترمز إلى انتصار ثقافة الحياة في لبنان.
بعد سنة على يوم الرابع من آب 2020، يتبيّن أنّ الكارثة مرتبطة بحدث حصل في الرابع عشر من شباط 2005، تاريخ اغتيال رفيق الحريري، الرجل الذي ارتكب جريمة إعادة الحياة إلى بيروت. يبدو أنّ هذه الجريمة لا تُغتَفر. لا تُغتَفر إلى درجة أنّ اللبنانيين لم يفهموا إلى اللحظة أنّ عاصمتهم يجب أن تكون ضاحية فقيرة من ضواحي طهران لا أكثر.
يحتاج نجيب ميقاتي إلى معجزة كي يتمكّن من تشكيل حكومة الفرصة الأخيرة للبنان في منطقة تبدو قابعة على برميل بارود. منطقة لا تشبه سوى مرفأ بيروت في السنوات السبع التي كانت فيها أطنان نيترات الأمونيوم مخزّنة في العنبر الرقم 12
من هذا المنطلق، يمكن فهم كلّ المحاولات للالتفاف على الحقيقة بعدما صار كلّ شيء واضحاً في ما يخصّ أطنان نيترات الأمونيوم وظروف تخزينها في أحد عنابر المرفأ، وإخراج الكميّات المطلوبة التي اُستُخدمت في صنع البراميل المتفجّرة في سوريا. ليس صدفة وصول نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت في عام 2013 بعد اضطرار النظام السوري، في حربه على شعبه، إلى التوقّف عن استخدام السلاح الكيميائي بشكل مفضوح، كما حصل في آب من ذلك العام. كلّ ما في الأمر أنّ البراميل المتفجّرة حلّت مكان السلاح الكيميائي في مرحلة كان يمكن أن تسقط فيها دمشق في يد الثوّار.
إذا كان مِن درس يمكن استخلاصه من تطوّرات الأيّام الأخيرة، فإنّ هذا الدرس يُختزَل بأنّ الأزمة اللبنانية باتت أكثر تعقيداً، وبدأت تتكشّف أبعادها. باتت أبعد من تشكيل حكومة وأكبر من ذلك. ليس فشل رئيس الوزراء المكلّف نجيب ميقاتي في الإعلان عن حكومته قبل الرابع من آب، الذكرى الأولى لفاجعة تفجير مرفأ بيروت، سوى منعطف حاسم في عملية تغيير النظام المبني على دستور الطائف. إنّه تغيير في اتجاه المثالثة يكرِّس حصر رئاسة الجمهوريّة، أقلّه في المدى المنظور، بما يسمّى “التيّار العوني” الذي ليس سوى أداة لدى “حزب الله”. لا تفسير منطقياً آخر لِما يدور حالياً في لبنان في حال استمرّ ميشال عون وصهره جبران باسيل في وضع العراقيل في وجه الرئيس المكلّف. لم يتردّد نجيب ميقاتي في تأكيد أنّ “المهلة بالنسبة إليّ غير مفتوحة. لِيفهم مَن يريد أن يفهم”. هذا الكلام الصادر عن نجيب ميقاتي أكثر من مفهوم، ولا يحتاج إلى ترجمة من أيّ نوع كي يفهمه مَن عليه أن يفهم.
يفسّر هذا التطوّر كلامٌ آخر لرئيس الجمهورية في مجالسه الخاصة عن الأسباب التي تدعوه إلى البقاء في بعبدا في حال لم يخلفه صهره جبران باسيل. السؤال الذي يطرحه ميشال عون لتبرير تصرّفاته: “لماذا السنّيّ رفيق الحريري في موقع رئيس مجلس الوزراء منذ 1992، ولماذا الشيعي نبيه برّي في موقع مجلس النوّاب، في حين المطلوب تغيير رئيس الجمهوريّة المسيحي كلّ ست سنوات؟”.
بالنسبة إلى رئيس الجمهوريّة، وضع رفيق الحريري يده على رئاسة الحكومة منذ عام 1992. الحريريّة لم تمُت مع اغتيال رفيق الحريري. لا يزال الرجل في السراي عبر ممثّلين له. هكذا يعتقد ميشال عون… أو يتخيّل. لا يعترف ميشال عون بأنّ معادين للحريري والحريريّة شغلوا السراي منذ 1992. لا يريد أن يرى في هؤلاء سوى بدل عن ضائع مؤقّت يقوم مقام رفيق الحريري.
من تفجير مرفأ بيروت… إلى تفجير النظام ومعه لبنان كلّه. هذه تبدو مهمّة “العهد القويّ” الذي هو “عهد حزب الله” المصمّم على القضاء نهائيّاً على ثقافة الحياة في لبنان بطريقة ممنهجة
ينتقل بعد ذلك إلى أنّ نبيه برّي الموجود في موقع رئيس مجلس النواب منذ ثلاثة عقود، ولا يستطيع أحد تغييره. لماذا لا يكون هو نبيه برّي المسيحي؟ لماذا لا يكون هو رفيق الحريري المسيحي، الذي حتّى إذا غاب، يظلّ ظلّه مخيّماً على السراي الحكومي؟
هناك كارثة مرفأ بيروت التي يحاول رئيس الجمهوريّة أخذ التحقيق فيها إلى مكان آخر، خصوصاً بعد استبعاده التحقيق الدولي. يريد تغطية الجريمة مع سابق الإصرار والتصميم على إخراجها عن سياقها. أكثر من ذلك، هناك سعي دؤوب إلى تقديم كبش فداء إلى الرأي العام اللبناني الذي لا يعي إلى الآن أنّ هناك جهة واحدة وحيدة قادرة على تخزين نيترات الأمونيوم في عنبر في مرفأ بيروت طوال سبع سنوات. هذه الجهة، التي يسعى رئيس الجمهوريّة إلى تغطيتها، معروفة. هذه الجهة أوصلت ميشال عون إلى قصر بعبدا كي نصل إلى اليوم الذي يصير فيه طرح مستقبل النظام في لبنان جدّيّاً.
من تفجير مرفأ بيروت… إلى تفجير النظام ومعه لبنان كلّه. هذه تبدو مهمّة “العهد القويّ” الذي هو “عهد حزب الله” المصمّم على القضاء نهائيّاً على ثقافة الحياة في لبنان بطريقة ممنهجة.
يحتاج نجيب ميقاتي إلى معجزة كي يتمكّن من تشكيل حكومة الفرصة الأخيرة للبنان في منطقة تبدو قابعة على برميل بارود. منطقة لا تشبه سوى مرفأ بيروت في السنوات السبع التي كانت فيها أطنان نيترات الأمونيوم مخزّنة في العنبر الرقم 12.
تخفي الأزمة الحكوميّة أزمة لبنان المطلوب تحويله إلى مستعمرة إيرانيّة عن طريق تبييض سلاح “حزب الله”، وذلك بقيام نظام جديد يكون فيه الحزب الحاكم والحَكَم في الوقت ذاته…
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع