نطوني جعجع
هل انكسرت الجرة تماماً بين الرئيس سعد الحريري وسمير جعجع، وبات حلفاء الأمس أعداء اليوم وربما الغد؟ وماذا أصاب العلاقة بين الرجلين على المستويات الشخصية والسياسية والتنسيقية؟ وهل يمكن ترميم ما تشوه سواء بجهد فردي أو إقليمي أو دولي عشية الانتخابات النيابية العتيدة؟
حتى الآن، لا شيء في الافق يوحي بأن الرجلين يسلكان طريقاً يمكن أن يلتقيا في وسطها أو في آخرها، أو على الأقل التوافق على خطوط عريضة تتعلق باستراتيجة موحدة في مواجهة حزب الله ومحور الممانعة، إضافة إلى طرق معالجة الأزمات الاقتصادية والمالية والاستراتيجية والدبلومايية التي يعانيها لبنان واللبنانيون منذ اختار الرجلان المضي بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية…
ولا يبدو دقيقاً معظم ما يقال عن أسباب القطيعة الحادة بين تيار المستقبل والقوات اللبنانية، إذ إن كل فريق ينسب إلى الآخر سلسلة من المواقف والخيارات التي سرعت في اتجاه الشرخ الذي تحول مع الوقت إلى ما يشبه الهوة السحيقة…
ولا يبدو أيضاً أن هناك أي وسيط قادر أو راغب على الأقل في جمع الطرفين، ولا أي رغبة ذاتية منهما لإصلاح ذات البين والانطلاق نحو نهج جديد يمكن أن يغير المعادلات أو أن يضخ الروح في ما كان يعرف بالتيار السيادي في لبنان بعد ثورة الرابع عشر من آذار…
وهنا لا بد من السؤال، من أخطأ بحق من؟ ومن تجاوز من؟ ومن تحامل أو تجنى أو افترى على من؟
كيف يمكن للدكتور سمير جعجع أن يصبح في حسابات السنة رجلاً لا يؤتمن على تفاهم، وهو الذي قطع خطوط الخطر للوقوف إلى جانب الرئيس فؤاد السنيورة المحاصر في مبنى السراي، وكيف يمكن أن يصبح سعد الحريري في حسابات القواتيين رجلاً متقلباً وهو الذي اختار جعجع ناطقاً أوحد باسم الرابع عشر من آذار في ذكرى الرابع عشر من شباط…؟
وأكثر من ذلك، كيف يمكن أن يقف النائب السابق أحمد فتفت في المناسبة عينها ليقول أمام الآلاف: “لقد ذُبحنا يوم ذُبح الثور الابيض”، وكأنه بذلك كان يربط مصير اللبنانيين كل اللبنانيين بما أصاب جعجع ذات حملة في زمن الاحتلال السوري، وكيف يمكن أن يقف سعد الحريري بعد عامين تقريباً ليوجه إلى جعجع أسوأ إهانة يمكن أن يتعرض لها مسؤول سياسي في تاريخ لبنان، وذلك عندما حمله مسؤولية ما تعرض له اللبنانيون والمسيحيون في زمانه…
ولا يخفى على أحد أن جعجع لم يبلع ما حدث، وهو المعروف بميله إلى الرد والثأر، وأن الحريري الذي اضطر إلى تدارك الأمر بضغط سعودي، لم يكن في وارد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه في أشهر العسل الوطني والسياسي…
وعلى الرغم من وقوف الحريري إلى جانب جعجع في المعركة الرئاسية، وهو العالم باستحالة الأمر، فغن جعجع لم يبد أي استعداد للتراجع أو إفساح المجال لسواه، الأمر الذي أسهم عفواً أو قسراً في زيادة فترة الفراغ الرئاسي، وهي الفترة التي استفاد منها حزب الله لحشر الجميع في الزاوية الصعبة وتخييرهم بين ميشال عون رئيساً أو رئاسة خاوية… وليس دقيقاً جداً أن الخلاف بين الرجلين وقع عندما تبنى الحريري رئيس تيار المردة سليمان فرنجية مرشحاً إلى رئاسة الجمهورية، وعندما رد جعجع بتبني الجنرال عون، بل إن في الأمر ما هو أبعد من ذلك…
فما قام به الحريري لم يكن مجرد خيار عادي حيال رجل عادي بالنسبة إلى جعجع، فهو بكل بساطة اختار أشد خصم حقداً وخطورة بالنسبة إلى قائد القوات اللبنانية وأكثرهم منافسة على زعامة الشارع المسيحي في الشمال، وما قام به جعجع في إطار الرد لم يكن خبراً طيباً بالنسبة إلى السنة الذين يرون في عون حليفاً سياسياً لحزب الله والمحور السوري الإيراني، لا بل شريكاً في كثير من المرات في خطوات وقرارات أطاحت الحريري من رئاسة الحكومة وأساءت الى السنة في “غزوة” السابع من أيار، إضافة إلى تصريحات له ولتياره اعتبرت السنة مجموعة من الأصوليين التي يجب القضاء عليها أو تحجيمها على الأقل…
وبعيداً من هذا العرض، ثمة أمور أخرى أسهمت في شكل مباشر في طلاق الرجلين، بينها ما هو معلن وما هو مخفي أو غير دقيق، وتتعلق بما جرى في الرياض ومع القيادة السعودية ذات لقاء جمع بين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وسمير جعجع وعدد من أركان الرابع عشر من آذار.. ما جرى في السعودية لا يزال حتى الساعة موضع اتهام مبطن من هذا ونفي ملتبس من ذاك، على رغم أن نتائج ومفاعيل ما جرى في الرياض، يؤكد أن أمراً جدياً حدث هناك وأدى إلى قطيعة صامتة بين الرجلين سرعان ما تطورت تدريجاً إلى كيديات وتحديات وحملات متقطعة وصولاً إلى القطيعة الحالية المرفقة بما تيسر من اتهامات علنية ونكايات وملفات…
ولن ندخل هنا في ما تردد عن “كلام” نقل إلى السعوديين ولا في كلام آخر يتعلق بالعلاقة بين الرياض وبيت الوسط، ولا إلى تهميش مارسه الحريري حيال حجم القوات في التشكيلات الحكومية والإدارية والأمنية، وهما أمران أحرجا “المستقبل” خليجياً، وأصابا القوات اللبنانية في مقتل يتعلق بحجمها السياسي الذي فقد زخمه أمام حجم خصمها اللدود التيار الوطني الحر، لكن الواقع يؤكد.
أن أحداً من الطرفين لا يملك صك براءة مطلقة، لكنهما يملكان كيانين مثخنين بجراح لا يتوافر لها، حتى إشعار آخر على الأقل، أي فرصة للاندمال قبل فتح صناديق الاقتراع في أيار المقبل، وهي جراح أعادت عقارب الساعة إلى الوراء بحيث رمى الحريري ثقله خلف سليمان فرنجية مجدداً في معركته النيابية شمالاً ومعركته السياسية رئيساً، وحرم جعجع من أي كتلة سنية انتخابية وازنة في مناطق الكورة والبترون وزغرتا وبيروت، وأي كتلة سنية نيابية في البرلمان المقبل المكلف انتخاب خلف للرئيس عون…
وليس من قبيل المصادفة أن يعلن فرنجية علناً وسراً أن جعجع كان وراء حرمانه من موقع الرئاسة الأولى، وأن يعلن الحريري علناً وسراً أن القوات اللبنانية كانت وراء سقوط حكومته في السابع عشر من تشرين، وفي وصوله مرشحاً ضعيفاً إلى رئاسة الحكومة مجرداً من دعم القوتين المسيحيتين، أي القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، وامتناع جعجع عن مد يد العون له في ما يتعلق بالتمثيل المسيحي الذي تخلى عنه لمصلحة عون وباسيل واضعاً الحريري في خانة “المسلم المنقض على حقوق المسيحيين”…
والواقع أن الأمر لا يبدو في طريقه إلى أي انفراج ممكن في الأفق، وهو ما أكده أخيراً موقف القوات اللبنانية من مشروع رفع الحصانات عن كل المسؤولين في لبنان ومنهم رئيس الجمهورية في ما يتعلق بتفجير المرفأ، وكأنه بذلك يقول للحريري، ما دمت توالي خصمي سليمان فرنجية فخياري الدفاع عن خصمك ميشال عون…
وسط هذه الأجواء، يتجه الطرفان إلى معركة حامية في أيار المقبل ولا سيما في الشمال حيث يحاول أن يصطاد الحريري رأسين، رأس جعجع ورأس جبران باسيل، من خلال الصوت السني الذي يقال انه يحشد نحو ستة عشر ألف صوت…
وهنا لا بد أخيراً من السؤال: ماذا بقي امام جعحع وباسيل؟
الجواب لا يحتاج إلى كثير من التأويلات، والبديل بالنسبة إليهما يكمن في رجل واحد هو نجيب ميقاتي الذي يلقى من عون غزلاً لافتاً ومن جعجع إشارات ودية متصاعدة، لعلمهما أن للرجل ثقلاً يعتد به في الوسط السني شمالا…
وهنا لا بد من السؤال: هل يفك ميقاتي تحالفه مع الحريري ويفتح على حسابه في الانتخابات المقبلة بحيث يتبنى خطاً سنياً مختلفاً يكون أقوى من سعد الحريري وأضعف من رفيق الحريري؟ وهل يتخلى عن حليفه الدائم سليمان فرنجية من أجل شريك ملتبس هو جبران باسيل أو شريك مستفز هو سمير جعجع..؟
لننتظر نتائج ما يجري في قصر بعبدا، قبل القفز نحو استنتاجات سريعة، فهناك يرتسم شكل المشهد السياسي المقبل ومنه يمكن أن نستشف التحالفات والطموحات والحسابات التي يمكن أن تجعل من أيار إما ربيعاً سيادياً يضع لبنان على سكة الانفراجات، وإما خريفاً ممانعاً يضعه عل سكة الانفجارات.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع