سامر مختار- صحافي سوري
“ما يحدث في درعا البلد هو محاولة النظام السوري الانتقام من أهالي المنطقة، لأنهم خرجوا في تظاهرات ضد الانتخابات الرئاسية، وهو السبب الرئيس الذي دفع النظام لجلب ميليشياته ومحاصرة المنطقة وتجويع أهلها، بحجة تسليم السلاح“
في التاسع والعشرين من تموز/ يوليو الذي مضى، نشر موقع “تجمع أحرار حوران” فيديو عنوانه “أُم تودّع أطفالها الثلاثة… قضوا بقصف نظام الأسد على بلدة اليادودة غرب درعا”.
نشاهد الأم وهي تهم بالجلوس على الأرض الترابية، وأمامها ثلاثة أكفان بيض مختلفة الأحجام. وبنظرة سريعة إلى تلك الأكفان، بإمكاننا تخمين أعمار الأطفال، فالكفن الكبير لطفل ربما يبلغ 14 سنة تقريباً، والمتوسط قد يكون لطفل في العاشرة، والكفن الصغير، لطفل ربما لم يتجاوز الخامسة.
أحدهم يحمل كفن الطفل الصغير، ويعطيه للأم لتحضن ابنها الصغير، ومن ثم تقترب يدها اليمنى إلى طرف قماشة كفن الطفل الذي في الوسط، وتكشف عن وجهه لثانية واحدة فقط، وتغطيه مرة أخرى. وبذلك ينتهي فيديو مدته 24 ثانية، تتكثف من خلاله صورة من آلاف الصور المؤلمة التي كرستها وحشية نظام الأسد وحلفائه وهمجيتهم في حربهم على السوريين وقتلهم وذبحهم واعتقالهم وتهجيرهم وتشريدهم منذ عشر سنوات، حتى هذه اللحظة.
ألصق السوريون صفات كثيرة بنظام الأسد، ليعبّروا للعالم أجمع عن حجم الجريمة التي ترتكب بحقهم، لكن الصفة التي ظل كثر منهم يرددونها وما زالوا، هي “قاتل الأطفال”. وبداية قتل أطفال سوريا وتعذيبهم، كانت قد بدأت، ويا للمفارقة، في درعا.
القصة بدأت حين اعتقل فرع الأمن العسكري في مدينة درعا مجموعة أطفال، كتبوا على جدران مدرستهم “إجاك الدور يا دكتور” و”يسقط الرئيس بشار الأسد”، وقام بتعذيبهم في السجن. لكن بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الثورة، سيقوم نظام الأسد بقتل الطفل حمزة علي الخطيب (24 تشرين الأول/ أكتوبر 1997- 25 حزيران/ يونيو 2011) بعدما تعرض لأشد أنواع التعذيب.
وخلال العملية العسكرية التي شهدتها درعا في الأيام القليلة، عادت صور أطفالها، الذي قتلوا بالقصف لتبرز بوصفها علامة فارقة من علائم عنف النظام وقسوته. فقد وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أكثر من مجزرة كان ضحاياها أطفال ومن بينهم “الأطفال الأشقاء ريتاج وبراء ومحمد أحمد الزعبي، من ضحايا المجزرة التي ارتكبتها قوات النظام السوري نتيجة قصفها براجمة صواريخ تابعة لها على بلدة اليادودة بريف محافظة درعا الغربي، في 29 تموز/ يوليو 2021، وكان جميع ضحايا المجزرة من عائلة واحدة”، و”الطفل نعيم فرج الحريري، قُتل في 31 تموز 2021، إثر إطلاق عناصر تابعة لقوات النظام السوري الرصاص عليه على الطريق الواصل بين قرية نامر وبلدة خربة غزالة بريف محافظة درعا الشرقي”.
كما وثقت الشبكة مقتل “خمسة مدنيين على الأقل من عائلة واحدة، بينهم 3 أطفال أشقاء وسيدة، قُتلوا إثر قصف راجمة صواريخ تابعة لقوات النظام السوري على بلدة اليادودة بريف محافظة درعا الغربي، في 29 تموز 2021”.
كان سبق التصعيد العسكري في درعا البلد، حصار خانق منذ 27 حزيران 2021، إذ قام نظام الأسد بإغلاق الطرق المؤدية إلى درعا البلد، كطريق السرايا والمشفى الوطني، وبعد 11 يوماً أغلق طريق الصوامع الذي يصل منطقة درعا البلد بالريف الشرقي. كما أغلق الطريق الواقع في منطقة “غرز” شرق مدينة درعا بالحجارة، ومنع مرور السيارات والمدينين.
وجاء الحصار على “خلفية رفض الوجهاء والأهالي فيها تسليم السلاح الفردي، وتفتيش منازلهم من قبل الأجهزة الأمنية من دون سبب، في ظل تحول دور الاحتلال الروسي من ضامن للتسوية إلى ضاغط على اللجان المركزية في درعا من أجل الرضوخ لمطالب النظام، مهدداً الأهالي فيها بإدخال ميليشيات طائفية إليها” وذلك بحسب موقع “تجمع أحرار حوران”.
يقول الناطق الرسمي لـ”تجمع أحرار حوران” أيمن أبو نقطة لـ”درج”: “ما يحدث في درعا البلد هو محاولة النظام السوري الانتقام من أهالي المنطقة، لأنهم خرجوا في تظاهرات ضد الانتخابات الرئاسية، وهو السبب الرئيس الذي دفع النظام لجلب ميليشياته ومحاصرة المنطقة وتجويع أهلها، بحجة تسليم السلاح، وتسليم الأشخاص المطلوبين للنظام أو تهجيرهم، أو إجبارهم على عمل تسويات معه، وهذه هي السياسة التي اتبعها النظام في مناطق درعا”.
وأـضاف: “كما يبرر النظام هجومه على المنطقة، بحجة وجود عناصر لـ”داعش”، على رغم أن منطقة درعا البلد معروفة بعدم وجود أي عنصر من عناصر داعش. لكن كل تلك الحجج التي يدعيها النظام هي من أجل السيطرة الأمنية الكاملة على المنطقة”.
أما الصحفي وليد نوفل من درعا فيقول لـ”درج”: “من الواضح أن النظام يسعى إلى حسم معركته في درعا البلد والمناطق الخارجة عن سيطرته في جنوب سوريا ومحاولة السيطرة الكاملة عليها. كما يحاول النظام أيضاً فرض قبضته الأمنية من خلال السيطرة على درعا البلد، وهذا الشيء واضح من ناحية أن النظام نقض 3 اتفاقيات مع أهالي المنطقة زلجانها، إذ إنه وبعد الاتفاق الأخير بينه وبين أهالي المنطقة، حاول نشر قوات عسكرية من الفرقة 15، كما حاول اقتحام درعا البلد من خلال الفرقة الرابعة، وأسفر عن ذلك الاقتحام مقتل شهيدين مدنيين”.
ويرى وليد أنه كلما نقض النظام اتفاقاً جديداً، يحاول بعدها رفع مطالبه أكثر، للضغط بشتى السبل على لجان التفاوض والعشائر في درعا البلد، لقبولهم دخوله المنطقة وبسط سيطرته عليها من دون شروط، وتهجير قسم من النشطاء، وشخصيات قيادية المعارضة له من الصف الأول، سواء كانوا من لجان التفاوض أو الفصائل العسكرية الموجودة داخل درعا البلد.
في ما يخص ورقة تهجير أهالي المنطقة، يؤكد نوفل أنه “في حال لوح النظام بخيار التهجير، سيقابل بالرفض من أهالي المنطقة، فدرعا البلد خضعت لحصار لمدة شهر، وعلى رغم ذلك رفعوا لافتات في أكثر من مناسبة تحت عنوان (لا للتهجير)، والإصرار على التمسك بالأرض”.
ما يحدث الآن، هو أن الشروط التي وضعها النظام أخيراً، كان من ضمنها تهجير أشخاص محددين، وهم، كما ذكرنا سابقاً، قادة المجتمع المدني، والفصائل العسكرية، وإصرار النظام من خلال الضغط في المفاوضات، على مغادرتهم باتجاه الشمال السوري.
وسألنا نوفل عما إذا كان هناك انقسام بين الأهالي حول فكرة التهجير من المنطقة فنفى ذلك، قائلاً، “حتى أنه ما من انقسام بين لجان التفاوض والعشائر، وبالنسبة إلى البيان الذي صدر عن العشائر، ربما فُهم بشكل خاطئ، لكن ما جاء فيه أنه في حال أصر النظام على تهجير أشخاص معينين، فهذا الأمر مرفوض، وإلا، فعليه تهجيرنا جميعاً، عبر عملية نقل آمنة، أي نقل جميع أهالي درعا البلد من نساء وأطفال وعائلات بأكملها، ولن نتفاوض على تهجير أشخاص محددين، فإما أن نخرج أو نبقى كلنا، وهذا هي الرسالة التي تحاول لجنة التفاوض والعشائر إيصالها للنظام”.
في 11 حزيران الماضي، نشر موقع SY24 تقريراً بعنوان ” شبح التهجير يعود إلى درعا مجدداً!” ونقل مراسل الموقع عن مصادر خاصة، أن “ملف التهجير فتح مجدداً في المدينة والقرى والمحيطة بها، عقب قيام الأجهزة الأمنية بإجراء دراسات أمنية عن مئات الأشخاص الذين خضعوا لاتفاق التسوية سابقاً”.
وأفاد مصدر SY 24، بأن “التهجير سيطاول الذين أثبتت الدراسات الأمنية أنهم ما زالوا يرفضون النظام ويقفون في وجه قواته في درعا”.
كما أشار المصدر إلى أن “المناطق التي يحتمل أن تشهد عمليات تهجير خلال الفترة المقبلة، هي اليادودة والمزيريب وطفس وداعل ونوى وجاسم وصيدا والنعيمة وعتمان، كونها من أكثر المناطق التي يجري فيها الأمن الوطني دراسات أمنية”.
بعد فشل المفاوضات الأخيرة بين اللجان المركزية بدرعا ونظام الأسد، تعرضت أحياء درعا البلد وطريق السد والمخيم لقصف بقذائف الهاون والدبابات والمضادات الأرضية على فترات متقطعة منذ صباح يوم الجمعة 27 تموز، ما أسفر عن إصابة عدد من المدنيين بينهم أطفال وخلق حالة هلع في صفوف الأهالي، وذلك بحسب موقع “تجمع أحرار حوران”.
تقول السيدة أم أحمد (اسم مستعار) من درعا لـ”درج”: “الأهالي في درعا يعيشون أوضاعاً صعبة للغاية، باتوا محاصرين في منازلهم وبخاصة بعد سيطرة قوات الأسد واليمليشيات على المناطق المرتفعة، ونشر قناصتها، ونصب المدافع وراجمات الصواريخ الثقيلة في التلال المرتفعة المحيطة بمدينة درعا، حيث باتت حركة الخروج من المنازل خطرة للغاية، إذ قتل وأصيب اكثر من 10 من الأهالي نتيجة استهدافهم برصاص القناصة، وتمَّ إغلاق النقطة الطبية الوحيدة في درعا البلد، وبالتالي بات الأهالي غير قادرين على الحصول على أي خدمة طبية مهما كانت بسيطة، إضافة إلى نقص كبير في الأدوية والمواد الأساسية وفقدان الغاز منذ شهرين”.
يرى الصحافي السوري مالك الحافظ أن الاتفاق حول فك الحصار على درعا البلد كان انهياره متوقعاً في وقت سريع، لسبب يعود إلى رغبة قوات النظام بالتصعيد في المنطقة سواء داخل مدينة درعا (مركز المحافظة) أو في مناطق أخرى في ريف درعا الغربي.
وأوضح الحافظ لـ”درج” أن “دمشق تريد فرض سيطرتها بشكل كامل على محافظة درعا لإطباق السيطرة بالعموم على الجنوب السوري وخصوصاً درعا من أجل إعادة تفعيل معبر نصيب الحدودي بشكل كامل مع الأردن.
ويعتقد أن هناك توافقاً أردنياً- سورياً، وحتى إقليمياً من أجل فتح الطريق التجاري بين الأردن وسوريا لإفساح المجال على إعادة تفعيل مشاريع استراتيجية يكون البلدان شريكين فيها إلى جانب دول أخرى، في مجالات تتعلق بالطاقة.
ويضيف الحافظ: التصعيد الحاصل يعود إلى أسباب منها سياسي لإظهار دمشق بصورة المنتصرة السياسية بعد الانتهاء من الانتخابات الرئاسية والتمديد للأسد سبع سنوات جديدة، وتتشارك مع الجانب الروسي هذا النصر لإعلان الاستعداد للمرحلة المقبلة وملفاتها سواء ملف عودة اللاجئين وتأمين مناطق مستقرة، وكذلك مرحلة إعادة الإعمار والبناء”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع