في دولة القانون لا صيف وشتاء على سطح واحد. في دولة القانون والهيبة لا يوجد مواطن بسمنة وآخر بزيت. في دولة المؤسسات تنتفي المحسوبيات. في دولة تحترم نفسها وأبناءها تختفي المحاصصات. في دولة كاملة المواصفات لا قوة إلا للقوة الشرعية. في الدولة الدولة بكل ما لهذه الكلمة من معانٍ وأهمية لا مكان للتسلط و”السلبطة” و”البلطجة”. في دولة العدالة الإجتماعية تغيب “الوساطات” لتحلّ مكانها الكفاءة والجدارة. في دولة المساواة تُحترم التراتبية. في دولة الكرامة الوطنية تُضبط الحدود من قبل القوى الأمنية الشرعية دون سواها. في دولة لا تُستباح هيبتها لا كلمة تعلو كلمة العدالة.
أمّا في دولة الـ”خيال صحراء” فتُنتهك الحقوق، وتنهك الأعراض، وتسفك الدماء، ويُسمح لشذاذ الآفاق التطاول على من يُفترض أن يكون حامي الحمى.
عندما تغيب الدول الحقيقية، وعندما تغيب مؤسساتها، وعندما تشحد هذه الدولة الأمن بما يسمّى “التراضي”، وعندما يحلّ الفراغ مكان الشرعيات، وعندما تتقدم المصالح الشخصية المصلحة العامة، وعندما يتعطّل تشكيل الحكومات مرّة وإثنتين وثلاثًا، وعندما تختلط الأمور بعضها بالبعض الآخر، ويصبح الأبيض أسود، والأسود أبيض، تطّل الفتنة برأسها، وتُستباح الكرامات، ويصبح أمن المواطن الساعي وراء رزقه ولقمة عيش عياله مهدّدًا في أي لحظة وعند أي مفترق طريق.
عندما تغيب المراقبة والمحاسبة تدخل إلى مرفأ بيروت الشرعي كميات هائلة من “نيترات الأمونيوم” على عينك يا تاجر وتوضع من دون وجه شرعي في عنابر تابعة للدولة من دون أن يكّلف أحد من المسؤولين نفسه ليسأل عن وجهة إستعمال هذه المواد المتفجرة، التي قتل إنفجارها في غفلة من الزمن من قُتل، وجرح من جُرح، وهدّم ما تهدّم.
يوم الأحد في 1 آب، وفي لحظة تخّلٍ، وفي يوم كان يُفترض أن يكون مخصّصًا للراحة و”شمّ الهواء”، “تعوكر” الجو فجأة، وحل الذعر محل الإطمئنان، وساد صوت الرصاص على صوت العقل، وسفكت الدماء، وأعلن الإستنفار العام، وكادت الفتنة تدخل إلى عمق أعماق أحيائنا، ولولا تدّخل الجيش، الذي هدّد جميع من تسّول لهم أنفسهم بإستباحة أمن اللبناني الأعزل، لذهب الوضع إلى أسوأ ما يمكن تصّوره، خصوصًا أن طرفي الإقتتال إستخدما تعابير ذكرتنا بأيام الحرب المشؤومة، يوم عملت يد الشرّ على شرذمة الجيش، لأنها كانت تعرف أنه الوحيد القادر على الوقوف في وجه المؤامرات التي تُحاك ضد الوطن، فضربت العمود الفقري بقصد شلّ كل الجسم اللبناني، ونجحت إلى حدّ كبير.
بالأمس قال قال قائد الجيش: “لا نأبه ببعض الأصوات الشاذة التي تحاول حرف الجيش عن مساره، ولا بانتقادات او اشاعات، بتنا نعرف خلفياتها”. وهذه الخلفيات هي نفسها التي أدخلتنا سنة 1975 في حروب ضروس لم تنتهِ إلاّ يوم قرر المجتمع الدولي والعربي وضع حدّ لمآسي اللبنانيين، فكان إتفاق الطائف، وكان أن خرس المدفع، ولكن إلى حين.