تحقيقات - ملفات
عام على انفجار مرفأ بيروت… والنزف في لبنان يتواصل
في الرابع من آب 2020، وقع انفجار ضخم في مرفأ بيروت قتل أكثر من مئتي شخص وألحق دماراً ضخماً في المدينة. وعمّقت المأساة أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية ومالية كانت بدأت قبل أشهر. بعد مرور عام، لا يزال البلد الصغير المنهك ينزف، ولم يحاسب أحد على ما حصل.
حوّل الانفجار الذي عزته السّلطات إلى كمية ضخمة من نيترات الأمونيوم مخزنة من دون تدابير وقائية، بيروت إلى مدينة موت، دمّر أحياء فيها واقتلع أبواباً ونوافذ حتى في ضواحيها، وخلّف صدمة لم يشف اللبنانيون منها بعد، حسبما تحدثت “فرانس برس”.
وتبيّن، وفق تحقيقات إعلامية ومصادر مواكبة للتحقيق، أنّ مسؤولين سياسيين وأجهزة أمنية والجيش كانوا على علم بمخاطر وجود 2750 طناً من نيترات الأمونيوم مخزنة في المرفأ، لكنهم لم يحركوا ساكناً. وعندما قرّر القضاء استدعاء بعض هؤلاء المسؤولين لاستجوابهم في القضية، ثارت ثائرة السياسيين، ورفضوا رفع الحصانة عن نواب تولّوا مناصب وزارية، ومنح الإذن لاستجواب مسؤولين أمنيين.
وتقول كارلن حتي كرم (26 عاماً) التي فقدت زوجها شربل وشقيقها نجيب وابن عمها شربل في عدّاد عناصر فوج الإطفاء الذين كانوا يحاولون إخماد حريق سبق الانفجار، “خسرنا كل شيء… توقفت حياتنا في الرابع من آب”.
حتّى اليوم، لم يحصل اللبنانيون على أجوبة عن أسئلتهم: من أتى بهذه الكمية الضخمة من نيترات الأمونيوم؟ لماذا تُركت سبع سنوات في المرفأ، ومن كان يعلم بها وبمخاطرها؟ وما هي الشرارة التي أدّت إلى الانفجار؟
عيّن قاضي تحقيق أول في القضية، وقرّر الادّعاء على مسؤولين، فوقفت السياسة له بالمرصاد وتمّت تنحيته، بحجة عدم اتباعه الأصول القانونية. ويسير المحقق العدلي الذي خلفه طارق البيطار على خطاه اليوم، إلا أنّه لم يُعط بعد إذناً لملاحقة الأمنيين، ويعرقل البرلمان رفع الحصانة عن نواب ثلاثة، كانوا يشغلون مناصب وزارية، وتمّ استدعاهم.
وانتقدت دول عدّة بينها فرنسا مسار التحقيق، وطالبت منظمات دولية بتشكيل بعثة تحقيق بإشراف الأمم المتحدة تدعم التحقيق المحلي، علّها تنتشله من التدخلات السياسية.
وتقول كارلن إنّ “الحزن لا شيء يوقفه، لكنّنا نسعى خلف الحقيقة والعدالة، علّنا نخفف شيئاً من الغضب في داخلنا”.
ووقع الانفجار في عزّ أزمة كوفيد-19، ففاقم هموم اللبنانيين الذين كانوا غارقين أصلاً في أزمة اقتصادية غير مسبوقة.
“أسوأ من الحضيض؟”
في تشرين الأول 2019، ثار اللبنانيون ضدّ الطبقة السياسية التي يتهمونها بالفساد والعجز. أسقطوا الحكومة آنذاك، وطالبوا بحكومة تكنوقراط. لكن الحكومة التي شكلت بعد عناء برئاسة حسان دياب لم تنجز شيئاً بسبب الانقسامات السياسية وتمسّك الأحزاب والأطراف المختلفة بنفوذها، وقدّمت الحكومة استقالتها إثر الغضب الشعبي الذي تفجّر في وجهها بعد انفجار المرفأ.
وتتابع كارلن: “الأشخاص أنفسهم هم سبب كلّ العلل”، مشيرةً إلى أنّه “قبل الانفجار بدأ الانهيار الاقتصادي والانهيار الصحي، ويجب أن يتحمّلوا مسؤولية ما قاموا به ومسؤولية عدم إدارتهم للبلد”.
بدأ لبنان مسيرته نحو الهاوية مع إعلان السّلطات التوقف عن دفع ديونها الخارجية، ووضعت المصارف قيوداً على الودائع، وبدأت العملات الأجنبية تنفد من الأسواق والليرة اللبنانية تفقد قيمتها. ضرب الانهيار الاقتصادي قطاعات مهترئة أساساً مثل الكهرباء، وتعثرت قطاعات أخرى، وصولاً الى قطاع الصحة بعد تفشي فيروس كورونا ثم هجرة مئات الأطباء والممرضين الى الخارج بسبب الأزمة، ومؤخراً نقص الأجهزة الطبية والأدوية جراء التدهور المالي وعدم القدرة على فتح اعتمادات بالدولار.
وسرّعت كارثة مرفأ بيروت، أحد أكبر الانفجارات غير النووية في العالم الذي ذكّر بالقصف النووي على هيروشيما وناكازاكي، الانهيار في البلد.
وتقول الأستاذة المحاضرة في الجامعة الأميركية في بيروت ريما رنتيسي إنّنا “اعتقدنا أنّنا وصلنا إلى الحضيض، فكيف بالوضع أن يسوء أكثر؟”.
وتابعت: “ما هو واضح لي، وما أذكّر نفسي به كل يوم، هو أن هؤلاء الذي يديرون البلد ليسوا سوى مجرمين وقتلة”، موضحةً أنّه “بعد الانفجار، فهمنا تماماً أنّه طالما هم في السّلطة، لن يتغير أيّ شيء”.
“حلقة مفرغة”
قتل الانفجار 214 شخصاً وجرح أكثر من 6500 آخرين وشرّد عشرات الآلاف عاد عدد منهم الى منازلهم.
وهبّت الدول لمساعدة لبنان، لكن المساعدات كانت محدّدة الأهداف لدعم المتضرّرين من الانفجار.
وضاعف المجتمع الدولي الضغوط على السياسيين اللبنانيين لتشكيل حكومة وتنفيذ إصلاحات ضرورية يشترط تحقيقها لتقديم القروض والمساعدات للحكومة.
لكن الإصلاحات لم تحصل. وجمدت مفاوضات مع صندوق النقد الدولي بسبب عدم قدرة المسؤولين اللبنانيين على تقديم رؤية موحدة للوضع. ومنذ عام، تقود البلاد حكومة تصريف أعمال لعدم تمكن القوى السياسية من التوافق على حكومة جديدة.
وكلّف قبل أيام نجيب ميقاتي المهمة الصعبة بتشكيل حكومة جديدة، بعد تنحي سعد الحريري الذي عجز عن ذلك على مدى أشهر طويلة.
بعد سنة على وقوع الانفجار، لم يهدأ غضب اللبنانيين، لكنّهم أيضاً يبدون متعبين.
فالدعوات الى الاحتجاج في الشارع لم تعد تجمع كثيرين، كما حصل في تظاهرات تشرين الأول 2019 ضد الطبقة الحاكمة، والتي علّقت عليها آمال كبيرة لم تتحقّق.
وباتت الاحتجاجات محدودة وغالباً ما تشهد قطع طرقات وأعمال شغب.
وتقول إميلي، وهي شابة في الثانية والثلاثين وموظفة في مؤسّسة حكومية، “كل ما أريده هو الهجرة، أريد أن أبعد أولادي من هنا، وأبني لهم مستقبلاً”.
وفوق ذلك كله، يعاني لبنان من أزمة محروقات ونقص في مواد غذائية وطبية وأساسية.
وتشهد معظم المناطق اليوم تقنيناً شديداً في الكهرباء يصل إلى 22 ساعة في اليوم، بينما لا يوجد ما يكفي من الوقود لتشغيل المولدات الخاصة.
كل يوم تقريباً، يصدر تحذير من قطاع ما: المستشفيات تحذّر من نفاد المحروقات اللازمة لتشغيل المولدات وسط انقطاع التيار الكهربائي ومخاطره على حياة المرضى، الصيدليات تنفذ إضرابات بسبب انقطاع الأدوية، المتاجر قد تضطر لإفراغ براداتها لعدم توفر الكهرباء والوقود.
وباتت حقائب القادمين من السفر لزيارة أهلهم أشبه بصيدليات متنقلة مليئة بالأدوية وحليب الأطفال وغيرها من الحاجات الأساسية.
وتقول رنتيسي إنّنا “ندور في حلقة مفرغة. نصحو كلّ على يوم على ما هو أسوأ”.
“ولو لمرة واحدة”
ويقول رسام الكاريكاتور برنارد الحاج “وكأنّها (ديستوبيا)، إنّها الكلمة الوحيدة التي أستطيع أن أصف بها لبنان، تعيش أسوأ كوابيسك ولا قدرة لك على التحكّم به”.
أما أهالي ضحايا الانفجار، فهمهم الأكبر محاسبة المسؤولين عن الكارثة التي خطفت أحباءهم.
وهم سيستذكرون قتلاهم الأربعاء الرابع من آب في ما أسموه في بيان صدر عنهم “يوم المطالبة بالحقيقة والعدالة”. ودعوا إلى مسيرات في هذا اليوم، وإلى تلاوة صلوات إسلامية ومسيحية، وقداس سيترأسه البطريرك الماروني بشارة الراعي في المرفأ المدمر الذي باتت إهراءات القمح فيه آيلة للسقوط.
وتقول كارلن: “فليحاسب ولو لمرة أحد أخطأ في هذا البلد”، مضيفة “لا شيء يعيد لنا ما خسرناه، نحن نسعى كي لا يتكرّر ما حصل، فربما يتمكن جيلنا أن يبدأ من جديد”.
وإن كان كثر يشكّكون في إمكانية الوصول إلى الحقيقة الكاملة او محاسبة جميع المسؤولين، كما يقول الحاج “إذا تمكن الانفجار من إسقاط واحد منهم فقط، سيكون قطعة الدومينو الأولى”، مؤكّداً أنّ “هذه القضية هي فرصتنا الوحيدة”.