عندما طرحنا منذ زمن بعيد ضرورة التوجه شرقاً للمساهمة في تقوية الاقتصاد اللبناني ، وتقليص انكشافه إلى الخارج ، وتزويده بالمنعة والمرونة ، فقد كان بذهننا التوجه أولاً إلى سوريا والعراق والأردن ودول الخليج ومن ثم الى البلدان الأخرى وفي مقدمها روسيا والصين وإيران وتركيا . وسبب ذلك كله أن لبنان لم يعد باستطاعته الاعتماد في علاقاته الاقتصادية على الخريطة القائمة منذ زمن الانتداب والتي برهنت محدوديتها وعجزها عن ملء الفراغ ، لا سيما وأنها ترتكز بمعظمها على التصدير الى لبنان دون أن تؤمن له أسعاراً تنافسية من جهة أو أسواقاً استهلاكية من جهة أخرى بحيث أصبح الاقتصاد الوطني يدور في حلقة جهنمية قائمة على الاستيراد المفرط والاستنزاف المتزايد لمخزونه من العملات الصعبة .
وبناء على ذلك أصبح البحث عن أسواق جديدة لتصريف المنتجات اللبنانية من جهة، وتنويع مصادر الاستيراد والاستثمار من جهة ثانية ، أمراً يفرض نفسه على وقع التراجع في الحركة الاقتصادية وملامستها الانهيار التام في ظل إصرار الفريق المسؤول عن هذا الانهيار على تكرار التجارب نفسها التي أدت الى إذلال اللبنانيين وإفقارهم وسرقة أموالهم مع سواهم من المودعين العرب وتلويث سمعة لبنان المصرفية والمالية الى سنين عديدة .
إن دول الشرق مهيأة لاستيراد منتوجات لبنان الصناعية والزراعية والخدماتية بشروط تفضيلية كما حدث اليوم مع العراق الشقيق إذ يلتزم ، مشكوراً ، بتزويد لبنان بمليون طن من المحروقات سنوياً مقابل سلع وخدمات لبنانية دون أن يلزمنا بإخراج أي مبلغ من العملات الصعبة .
أما الدول الغربية التي تشكل صادراتها الى لبنان الكتلة الأكبر فهي لا تستورد من لبنان إلا القليل مما يجعل الميزان التجاري معها مختلاً الى حد كبير ، مع كل ما يعنيه ذلك من استنزاف متواصل للعملات الصعبة في لبنان وإضعاف مركزه الاقتصادي داخلياً وخارجياً .
وليس خافياً على أحد ان تعويض العجز في هذا المجال لا يمكن تحقيقه إلا بالاعتماد على التحويلات الخارجية أو بالاستدانة ، وكلاهما طريق محفوف بالمخاطر كما تبين معنا ، خاصة إذا تلازم ذلك مع فجور الطبقة المصرفية وقصور المنظومة الحاكمة وجشعها من جهة ، وتخلّف البنك المركزي الفاضح عن القيام بواجباته في حماية الليرة اللبنانية والتوازن الاقتصادي من جهة أخرى .
وعلى هذا فان القول بأن لبنان قادر على الخروج من أزمته الخانقة بمجرد تشكيل حكومة جديدة واستئناف المباحثات مع صندوق النقد الدولي ومجموعة الدائنين باليوروبوندز هو قول مبالغ فيه ولا تتخطى تأثيراته المرحلة المباشرة لتبقى الحاجة ماسة لتغيير المنهجية ورحيل المسؤولين عن الأزمة – المأساة ، وصعود عقلية جديدة بشخصيات عصرية نزيهة مستعدة لمقاتلة الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة .. شخصيات متحررة من القيود البالية والمنهجيات الساقطة ، ومتطلعة الى تقوية قطاعات الإنتاج والمعرفة والتكنولوجيا وتأمين الأسواق الجديدة سواء كانت في الشرق أو الغرب .
أن لبنان بحاجة الى منهج عصري تقدمي في الحكم قبل ان يكون بحاجة الى حكومة تكرر نفس الخطوات والأخطاء التي جلبت البلاء واليباس إلى لبنان.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع