إلى جانب نجاح حزب الله مع حلفائه، في إحباط مخطط الشرق الأوسط الجديد عبر مواجهة أدواته المحلية اللبنانية، فهو نجح أيضاً في إحباط هذا المخطط في مواجهة الأداة الإسرائيلية عبر البوابة اللبنانية. لكنّ المفاجآت التي لم تكن في حساب قادة العدو والإدارة الأميركية، أن حزب الله أسَّس من خلال هذا الانتصار لقواعد ومعادلات لا تزال تُظلِّل الساحة اللبنانية والإقليمية وصولاً إلى الجمهورية الإسلامية في إيران، على تفاوت في ما يتعلق بكل ساحة بحسب ظروفها وقيودها.
فقد شطبت هذه الحرب، بانتصاراتها المتعدّدة الأبعاد والمجالات، خيارات استراتيجية وعسكرية كانت تراود جنرالات واشنطن وتل أبيب على مستوى المنطقة، وفي ظلها تنامي قدرات حزب الله وتطورها، بموازاة ارتداع إسرائيلي عن تنفيذ ما سبق أن توعّد به إزاء الساحة اللبنانية، بأنه لن يسمح لحزب الله بإعادة بناء قدراته وتطويرها. ولم يكن امتناع القيادتين السياسية والعسكرية عن تنفيذ الخيارات التي لوَّحت بها في أكثر من محطة، إلا نتيجة فعّالية ردع حزب الله الذي تطوَّر في أعقاب الانتصار الذي حقّقه خلال الحرب. وهو الذي دفعهم للبحث عن خيارات بديلة في محاولة لإسقاط المقاومة عبر أكثر من بوابة محلية وإقليمية.
تحضر نتائج الحرب أيضاً في خلفية تقديرات كل الأطراف ورؤاها، وهي التي تشكل جزءاً رئيسياً من البنية التحتية التي يستندون إليها في بلورة خياراتهم ومواقفهم. وبشكل أخص تحضر لدى قادة العدو على المستويين السياسي والأمني، بشقّيه الاستخباري والعسكري. ففي كل المراحل التي تلت، وصولاً إلى الوقت الحاضر، دائماً ما كان يحضر في حسابات العدو لدى دراسة خيار شن حرب أو مواجهة عسكرية مع حزب الله، ما يمكن أن يترتب على نتائج أي مواجهة جديدة بعدما طوّر الحزب قدراته وتكتيكاته وصواريخه، في ضوء سابقة حرب الـ2006.
وبالاستناد إلى هذا المفهوم التأسيسي كانت نتائج حرب عام 2006، وستبقى، حاضرة في أي محطات مستقبلية، ما دام العدو عاجزاً عن تغيير الوقائع التي أرستها المقاومة، وثبّتتها الانتصارات العسكرية الإقليمية في العراق وسوريا.
هكذا تتجلى بشكل واضح حقيقة أن نتائج حرب عام 2006، أسقطت مفاهيم وأنتجت أخرى، وأعادت بلورة العقل العسكري – الاستراتيجي الإسرائيلي من بوابة نجاحها في فرض تخفيض سقف طموحات كيان العدو الإقليمية، وأن تُقلّص – في عقله القيادي – حدود القوة التي كان ينسبها إلى نفسه، مستنداً في ذلك إلى تجارب وانتصارات سبق أن حقّقها في أكثر من محطة تاريخية. وأصبحت مؤسسة القرار لكيان العدو أكثر إدراكاً وإقراراً بضيق ومحدودية خياراته الذاتية، الأمر الذي انعكس امتناعاً عن مغامرات كبرى على مستوى المنطقة. كل ذلك دفع تل أبيب إلى الاستنجاد بواشنطن كي تحميها من خلال التواجد العسكري المباشر في سوريا والعراق، ورعاية وإدارة تنفيذ مخططات تستهدف بيئتها الإقليمية، من ضمنها لبنان.
مع ذلك، لم تقتصر مفاعيل انتصار حرب عام 2006، على ساحة العدو، بل ساهمت أيضاً في تغيير نظرة المقاومة وجمهورها في لبنان والمنطقة إلى نفسها، وغيّرت أيضاً النظرة إلى العدو في ما يتعلق بعناصر قوته وضعفه. كما غيّرت في نظرة العدو إلى المقاومة وجمهورها. وأصبح ذلك أكثر حضوراً في المقاربات الرسمية، كما مقاربات معاهد الأبحاث، لمعادلات القوة ولنظرتها إلى المستقبل. والأهم أن هذه التحولات ليست أمراً نظرياً مجرداً بل كان لها انعكاساتها العملية، في التقديرات والخيارات العملياتية، وبالضرورة في عملية بناء القوة وتطويرها، انطلاقاً من الثقة المبنية على التجربة التي تجلّت في حرب عام 2006.
أيضاً، من أهم الخلاصات التي انتهت إليها تلك الحرب في وعي طرفَي الجبهة، أنه بعد التحولات التي مر بها الصراع مع إسرائيل، وبعدما توهّمت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة أن سباق معادلات القوة حُسم لمصلحتها، لأسباب دولية وإقليمية وتكنولوجية. لكن تحرير عام 2000 أسقط رهانات إسرائيل على إمكانية مواصلة سياسة التوسع، ثم أتت حرب عام 2006، لترسم معالم استراتيجية نصر ثبتت نجاعتها بالميدان، فكانت أشبه باختراع نوع جديد من السلاح الذي أسَّس لتغيير قواعد المواجهة ومعادلات الصراع لمصلحة المقاومة.
ولمن يتوهم أن ما تقدم هو وجهة نظر من زاوية المقاومة ومؤيديها حصراً، ينبغي إعادة التذكير بالخلاصة التي قدّمها رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو لنتائج حرب 2006، في كلمة له قبل أقل من سنة على ذكراها السنوية الأولى (عندما كان رئيساً للمعارضة) أمام مركز القدس في حزيران 2007، بالقول إنه بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000، وبعد الانسحاب من قطاع غزة عام 2005، وبعد حرب عام 2006، «عاد سؤال الوجود يلوح فوق إسرائيل ليس فقط لدى أعدائها وإنما لدى أصدقائها أيضاً».
بالنسبة إلى الإشارة إلى عودة سؤال الوجود فهو يعني أن هذا السؤال كان موجوداً قبل ذلك، وهو ما أوضحه نتنياهو في الكلمة نفسها عندما تحدث عن التهديد الوجودي الذي كان محدقاً بإسرائيل وتم دفعه من خلال حربَي 67 و73، في إشارة إلى مآلاتها العسكرية الناجمة عن وقف الحرب على الجبهة المصرية وما نتج عن ذلك، ثم ما أعقبها من اتفاقية كامب ديفيد التي حيّدت مصر وغيّرت موازين القوى بشكل كبير لمصلحة إسرائيل.
ولعل الأهم في ما أقر به نتنياهو، في حينه، أنه ينطوي على اعتراف ضمنيّ بأن حزب الله، ومعه محور المقاومة، استطاعا أن يُغيِّرا معادلات الصراع ويؤسّسا لواقع وخيارات استراتيجية يمكن بالاتكاء عليها مواصلة شقّ الطريق نحو فلسطين… ويمكن أيضاً بالاتكاء على ما تقدم فهم الكثير من المحطات التي شهدتها ولا تزال، سوريا والعراق ولبنان… على مستوى خلفياتها وأهدافها.