الأخبار- أمينة الزياني
“إن الوسائل القانونية المتاحة في الدستور موجودة لديّ، وهي كالصواريخ على منصّات إطلاقها، ولكن لا أريد اللجوء إليها في هذا الظرف بالذات”. هكذا تحدّث الرئيس التونسي، قيس سعيد، منذ سنة بالتمام والكمال، مُنبّهاً آنذاك رئيس البرلمان وزعيم حركة “النهضة”، راشد الغنوشي، إلى خطورة الوضع ودقّته، ولكن ما من مجيب. تتالت الأحداث إثر ذلك على نحو كان كفيلاً بتعميق الأزمة السياسية، ومضاعفة معاناة التونسيين اقتصادياً، وتفجير الاحتقان الاجتماعي. وفي خضمّ وضع وبائي صعب، رافقه شحّ الموارد اللازمة لتطويق العدوى، أسقطت حركة “النهضة” وحلفاؤها “حكومة الرئيس” التي رأسها إلياس الفخفاخ بعد اتّهام الأخير بتضارب المصالح، وخوض حرب إعلامية ضدّه لكسر التعاطف الشعبي معه، إثر تمكّن حكومته في فترة ما من محاصرة جائحة “كورونا”، وصولاً إلى صفر إصابات. وفي أعقاب استقالة الفخفاخ، عادت المبادرة إلى سعيد، ليُكلّف مستشاره القانوني، هشام المشيشي، بتشكيل الحكومة في 25 تموز 2020، ولينطلق فصل جديد من التجاذب هو الأعنف منذ انتفاضة 2011.
لم يلبث المشيشي أن استبدل بـ”حزام الرئيس” حركة “النهضة”، في ما وُصف آنذاك بـ”انقلاب الابن الضالّ” الذي قدّم جميع التنازلات الممكنة من أجل نيل مساندة “النهضة” و”قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة”، ووضع خريطة طريق تقوم أساساً على عزل سعيد وتهميش دوره. نُفّذت الخريطة على عجل، عبر إقالة جميع الوزراء الذين اقترحهم الرئيس في شباط 2021، وتعويضهم بأسماء تحظى بموافقة “النهضة”. وعلى رغم نيل هؤلاء الثقة من البرلمان، إلا أنه تَعذّرت عليهم ممارسة مهامّهم إثر رفض سعيد أداءهم اليمين الدستورية، واعتبار مسار تعيينهم مخالفاً للدستور. ومثّلت هذه المحطّة أوّل فصول الحرب بين القطبين، لتتتالى تصريحات الائتلاف الحاكم المُهدّدة بالردّ دستورياً عبر عزل الرئيس بعد “الخرق الجسيم للدستور”. وتصاعدت حدّة تلك التهديدات مع رفض سعيد المصادقة على مشروع تنقيح قانون المحكمة الدستورية، القاضي بتخفيض النصاب المطلوب إلى 130 صوتاً متوفّرة لدى الائتلاف الحاكم، بدل 145. وبين هذا وذاك، شهد البرلمان توتّرات بلغت حدّ تعنيف نواب معارضين في أكثر من مناسبة، فيما تكرّرت مطالبة المعارضة بإنهاء دور الغنوشي، الذي تعذّر تمرير عريضة سحب الثقة منه مراراً، على رغم التوافق العريض على اعتبار وجوده على رأس المؤسّسة التشريعية وطريقة تسييره لها عاملاً من عوامل التوتّر، حتى لدى شقّ من حزبه، صدح برفضه غياب الديموقراطية داخل الحزب، وسوء إدارة البرلمان، ما أضرّ بشعبية الحركة.
ولم تنقطع الاحتجاجات الاجتماعية خلال هذه الفترة. إذ إن المشيشي بادر، منذ تسلّمه مقاليد السلطة في أيلول الماضي، إلى سحب مشاريع القوانين التي قدّمها سلفه الفخفاخ، سامحاً لحزامه السياسي بصياغة التشريعات على المقاس، ما سبّب موجة واسعة من الرفض، على غرار احتجاج الإعلاميين على تمرير مقترح قانون “الهيئة التعديلية للإعلام”، والاحتجاجات الحقوقية على إعادة طرح مشروع قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين المتضمّن مقتضيات قمعية وتعسّفية. وتهاوت شعبية المشيشي أكثر، بعد إقدامه على الزجّ بما يزيد على ألفي محتجّ على خلفية استفحال الأزمة الاقتصادية، لتَنتج من الاعتقالات التعسفية انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان؛ من بينها الموت تحت التعذيب. وكانت تلك نقطة اللاعودة بالنسبة إلى المشيشي، الذي لم يستطع التدارك، وإنّما أوغل في قمع الاحتجاجات، حتى المتّصلة بسوء إدارته لأزمة “كورونا”. وكانت البلاد قد سجّلت، نتيجة التعثّر في جلب اللقاحات وإنهاك المنظومة الصحّية، أرقاماً قياسية في وفيات “كورونا”، تجاوزت المئتي وفاة يومياً وآلاف الإصابات. ولعلّ أزمة نفاد الأوكسيجين من المستشفيات، وصمت المشيشي إزاء تنظيم الأيام المفتوحة للتطعيم، وإفساحه المجال أمام تدافع شعبي على مراكز التلقيح من دون تدخّل الأمن للحيلولة دون الازدحام، هو الذي أفاض كأس الرئيس، ومعه طيف واسع من التونسيين. وتَعزّز الغضب الشعبي والرئاسي بعد تصريحات وزير الصحة، فوزي المهدي، والتي أكدت أن رئاسة الحكومة دفعت الوزارة إلى تنظيم الأيام المفتوحة للتطعيم، ثمّ انقلبت على قرارها واتّهمت الوزارة بالإجرام في حق التونسيين بتعريضهم للعدوى، وأن الأمر دُبّر في مقرّ رئاسة الحكومة من أجل إقالة الوزير لا أكثر. ووصف الرئيس التونسي هذه الممارسة بـ”الإجرامية المدبّرة”، وتوعّد مقترفيها بالمحاسبة، في الوقت نفسه الذي تصاعدت فيه شعبيّته على خلفية سعيه الدبلوماسي لاستجلاب التطعيم والمعدّات الطبية.
وعلى امتداد الأيام الماضية، توالت الدعوات السياسية والشعبية إلى استقالة حكومة المشيشي، فيما بدأت ملامح تنصّل الائتلاف الحاكم منه تتوضّح بتصريحات تتّهمه بالفشل في تطويق العدوى والعجز عن إنقاذ البلاد اقتصادياً، بعدما بلغت حدّاً غير مسبوق في محدودية مواردها المالية، وإخفاقها في تأمين موارد سداد الديون العمومية، ما نجم عنه تخفيض الترقيم السيادي للبلاد في أكثر من مناسبة، مقابل اقتصار الإجراءات الحكومية على تأمين مصالح دوائر النفوذ المالي في البلاد، وآخرها قانون الإنعاش الاقتصادي. وكانت حركة “النهضة” أوّل المبادرين إلى التنصّل، بعد دعوة مجلس شوراها إلى تكوين حكومة سياسية، لتتبعها بقية مكوّنات هذا الائتلاف. ولم تلتقط “النهضة” إشارات الشارع التونسي الذي عاد إلى الاحتجاج بدءاً من يوم 25 تموز، في ذكرى “عيد الجمهورية” والاغتيالات السياسية، كما لم تقدّر دلالة حرق عدد من مقارّها في أكثر من جهة وتخريبها، بل خرجت في الليلة نفسها على عجل لتعلن قدرتها على التصدّي لهذه الممارسات وتتوعّد المحتجين بالملاحقة القضائية.
لكن سعيد لم يمنح “النهضة” وقتاً للردّ، إذ بادر خلال أقلّ من ساعة إلى جمع القيادات الأمنية والعسكرية، ليعلن عقب ذلك تطبيق مقتضيات الفصل الـ 80 من الدستور، والقاضي بإسناد صلاحية اتخاذ جميع القرارات والإجراءات المستوجبة لحفظ كيان البلاد من خطر محدق بها، إليه، بعد استشارة رئيسَي الحكومة والبرلمان في خلال ثلاثين يوماً، مع إمكانية إنهاء حالة الاستثناء إثر طلب البتّ بها من قِبَل المحكمة الدستورية. وتَمثّلت إجراءات سعيد في تجميد البرلمان لمدّة ثلاثين يوماً، وتجريد جميع أعضائه من الحصانة البرلمانية، وإعفاء رئيس الحكومة من مهامه، وتكليف شخصية أخرى بقيادة الحكومة تحت إشراف مباشر من سعيد، علاوة على ترؤّس الأخير النيابة العمومية في الجهاز القضائي، الذي واجه انتقادات جمّة سابقاً، واتُّهم بعض المشرفين عليه بالانحياز إلى “النهضة”، وقبْر الملفّات القضائية المتعلّقة بالاغتيالات السياسية. وأعقبت هذه القرارات إجراءات أخرى، من بينها إعفاء وزير الدفاع ووزيرة العدل من مهامّهما، وسط تحذير المؤسسة العسكرية من الردّ بالرصاص على من يجرؤ على استعمال العنف أو السلاح لحمل التونسيين على الاقتتال.
وفي حين نزلت جموع من التونسيين للاحتفال بالقرارات، أذكت حماستَهم زيارةُ سعيد لشارع الحبيب بورقيبة، وتجوّله وسط مؤيّدي قراراته، في ظرف أمني بالغ الدقة. في المقابل، هرعت قيادات “النهضة” لتردّ على الرئيس، وتُعلن رفضها قراراته، وتصفه بـ”الانقلابي” و”النهم للاستبداد”. ولم تتردّد الحركة في استعمال سلاحها الأقوى، وهو النزول بقواعدها إلى محيط البرلمان، والاعتصام أمامه بقيادة زعيمها راشد الغنوشي، في ظلّ مخاوف من محاولتها استحضار” سيناريو رابعة”، أو تطوّر الاحتجاجات المناهضة لقرارات سعيد إلى أعمال عنف. وعلى الضفة المضادّة، انطلقت بوادر تشكّل جبهة سياسية حول الرئيس لتأييده، تكوّنت أساساً من حزب “حركة الشعب” ومجموعة من الأحزاب الأخرى، فيما تناغم موقف الأحزاب اليسارية مع موقف “النهضة” وحلفائها، وهو وصْف هذه الإجراءات بـ”الانقلاب” والدعوة إلى التمرّد عليها. وبالتزامن مع ذلك، يواصل سعيد الاجتماع بممثّلي المنظّمات الوطنية، وأوّلها الأكثر تأثيراً، “الاتحاد العام التونسي للشغل”. وجاء موقف “منظّمة الشغيلة” في صفّ قرارات الرئيس، باعتبارها إيّاها ملائمة للدستور وفق قراءة خبرائها، وطلبها في الوقت ذاته ضمانات من سعيد بأن لا تستمرّ الحالة الاستثنائية لأكثر من الأجل الدستوري. ويُعدّ موقف المنظمة حاسماً خلال هذه اللحظات الفارقة، بالنظر إلى ثقلها الشعبي والعمالي والسياسي أيضاً.هكذا، تسارعت الأحداث في تونس بنسق هستيري على امتداد الساعات العشر الأخيرة، فيما بدأ كثيرون في تقليب السيناريوات التي يمكن أن تتحقّق في البلاد، مستحضرين خصوصاً السيناريوان التركي والمصري، من دون الأخذ بعين الاعتبار فرادة التجربة وفرادة آلياتها. فالساحة التونسية لم تشهد إقحاماً للمؤسسة العسكرية في الشأن السياسي سابقاً، وحتى اللحظة، لا دور سياسياً للجيش التونسي باستثناء الوظيفة العادية المتمثّلة في تأمين المنشآت والمقارّ السيادية، وخاصة تلك المشمولة بقرارات تجميد أو إعفاء المشرفين عليها. كما أن الثقة التي يحظى بها سعيد لدى طيف واسع من التونسيين، بعد صعوده من رحم انتخابات رئاسية مبكرة عقب رحيل الباجي قائد السبسي سنة 2019، بما يفوق المليونين ونصف مليون صوت، تجعل شخصه، في نظر كثيرين، الضمانة الوحيدة لعدم الانحراف بالسلطة، في ظلّ غياب الآليات الدستورية الضامنة لذلك. لكن هذه “الضمانة” المفترضة لا تحجب وضع الريبة وتكافؤ الفرضيات بين إمكانية انزلاق البلاد نحو الاستبداد بالحكم، أو إنقاذها وتحصينها من الأخطار التي تسبّبت بها كامل الطبقة السياسية.
وعلى رغم أن أنصار سعيد ومعارضيه معاً كانوا على علم بمشروعه قبيل انتخابه أصلاً، كونه القادم من خارج المنظومة السياسية التي يعتبرها في تشابك وتداخل مع لوبيات المال والسياسة الفاسدة، ما يجعل وقع المفاجأة أخفّ وطأة لدى الكثيرين، إلا أن من المنطقي أن تثير قرارات سعيد مخاوف لدى التونسيين، وخاصة الحقوقيين منهم، طالما أنها تُمركز السلطات الثلاث، تشريعية وقضائية وتنفيذية، بيد الرئيس، من دون إمكانية للرقابة عليها، قبل انتهاء مدة “التدابير الاستثنائية”. ويُعدّ إقدام قوات الأمن على غلق مكتب قناة “الجزيرة” في البلاد مؤشّراً منذراً بخطر الانحراف في السلطة. وإذ تتمسّك “النهضة” بتفصيلات دستورية اختلف فيها فقهاء القانون الدستوري أنفسهم، فإن تطوّرات الموقف في تونس تبدو أكثر دقة من قراءة تقنية وشكلية للدستور، وأشمل من ذلك، وتتنزّل في سياق عشر سنوات من عمر الانتقال الديموقراطي المتعثّر، عجزت فيه المؤسّسات الدستورية الجديدة عن استيعاب الخلافات السياسية، وعاشت خلالها البلاد فترات حالكة، نتيجة الهزّات السياسية والتراجع الاقتصادي والتحالف مع المنظومة السابقة.
الغرب «يقلق» ولا ينزعج
لم تخرج ردود الفعل الدولية والعربية على قرارات الرئيس التونسي، قيس سعيّد، بإقالة الحكومة وتجميد عمل البرلمان، من إطار إبداء القلق، في انتظار معرفة مآل خطوات ليل الأحد «الانقلابية». فالولايات المتحدة، مثلاً، لم تُحدِّد بعد «إذا ما كان الوضع في تونس انقلاباً»، على رغم أنها أبدت قلقها إزاء قرارات سعيّد، ودعت إلى احترام «المبادئ الديموقراطية». وأملت فرنسا، من جهتها، «عودة المؤسسات إلى عملها الطبيعي»، معلنةً أنها «تتابع بأكبر قدر من الانتباه تطور الوضع السياسي في تونس»، فيما دعت ألمانيا إلى «احترام الحريات المدنية التي تشكل أحد أهمّ مكتسبات الثورة التونسية»، موضحةً أنها لا تودّ «الحديث عن انقلاب».
وأكد وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، «حرص المملكة على أمن واستقرار وازدهار الجمهورية التونسية الشقيقة ودعْم كل ما من شأنه تحقيق ذلك». وأبدت وزارة الخارجية التركية، بدورها، «قلقها البالغ» إزاء التطورات الأخيرة في تونس، داعية إلى إعادة إرساء «الشرعية الديموقراطية».
(الأخبار)