ميخائيل ميلشتاين – باحث في معهد هرتسليا للسياسات والاستراتيجيا
بعد شهرين على عملية “حارس الأسوار”، التي تمنى كثيرون في إسرائيل أن تشكل حدثاً تكوينياً في إطار منظومة العلاقات مع “حماس”، يبرز زحف صامت من الطرفين للعودة إلى الواقع الذي كان قائماً قبل 10 أيار/مايو عند الساعة السادسة مساء، عندما أطلقت الحركة أول صلية صواريخ في اتجاه القدس، وبدأت المعركة العسكرية التي استمرت أسبوعين تقريباً.
المواقف المتشددة التي اتخذتها إسرائيل مع نهاية العملية بشأن كل ما له علاقة بالدفع قدماً بخطوات مدنية في قطاع غزة تتآكل بشكل مطّرد. هذا التوجه ينطوي على سلسلة متواصلة من التسهيلات المدنية: السماح بتصدير بضائع وإنتاج زراعي من القطاع (ولو بحجم محدود نسبياً)، وتوسيع منطقة الصيد البحري إلى 9 أميال، وتسهيل الانتقال من المنطقة وإليها، وكذلك فحص تحويل المساعدة المالية القطرية بواسطة آلية جديدة لا تكون خاضعة لنفوذ “حماس” (المقصود نحو 20 مليون دولار شهرياً مخصصة لشراء الوقود وتشغيل محطات الطاقة في القطاع ودفع الرواتب لموظفي حكومة “حماس” و10 ملايين مخصصة للمحتاجين).
الهدف العام من هذه الخطوات تثبيت تسوية جديدة في القطاع. والمقصود هنا العقيدة عينها التي انهارت عندما بدأت “حماس” بصورة فجائية عملية “حارس الأسوار” – من دون توترات مسبقة مع غزة – مؤكدة أنها قادرة على استخدام التسوية كنطاق مرن يمكنها الخروج منها والعودة إليها بما يتلاءم مع اعتباراتها. من المهم التشديد على أن “حماس” لم تضع في أي مرحلة من مراحل العملية المسألة المدنية كمصدر أو هدف للمواجهات – بعكس عملية “الجرف الصامد” التي كان محورها الموضوع المدني – وهي فعلياً بادرت إلى المعركة انطلاقاً من دوافع أيديولوجية واضحة، بينما كان الوضع المدني في قطاع غزة متجهاً نحو التحسن في العام الذي سبق المواجهات.
بالإضافة إلى ذلك، بعد انتهاء العملية تدفع “حماس” قدماً بنوع من “معركة بين الحروب” – من خلال إطلاق البالونات المشتعلة على منطقة غلاف غزة وشن هجمات على الجيش الإسرائيلي، إذ ترى “حماس” في ذلك صراعاً يسمح لها بالاحتكاك بإسرائيل من دون التدهور إلى مواجهة واسعة. يطرح هذا الأمر علامة استفهام كبيرة بشأن مدى ارتداع “حماس” من إسرائيل بعد المواجهة الأخيرة التي كان ينبغي لها القضاء على “طابع المغامرة” للحركة. وعلى الرغم من تضاؤل إطلاق البالونات المشتعلة في الأسابيع الأخيرة، فإنه قد يتجدد في أي لحظة، كوسيلة من بين وسائل أُخرى، للتلميح إلى عدم رضا “حماس” عن تقدم الحوار بشأن موضوع التسوية أو حجم الخطوات المدنية في القطاع.
العودة إلى تسوية تعتمد على تفسيرات ضيقة للمحافظة على هدوء أمني مقابل خطوات مدنية – حتى بحجم محدود أكثر مما كان عليه قبل عملية “حارس الأسوار”، تشكل خطأً استراتيجياً بالنسبة إلى إسرائيل. البادرات المدنية التي انطوت عليها التسوية اعتُبرت مكوناً وجودياً في نظر “حماس”، وإلغاؤها شكّل الثمن الأغلى الذي دفعته الحركة جرّاء قرارها المبادرة إلى المواجهة. العودة إلى منطق التسوية بالشروط الحالية يمس بقوة بردع إسرائيل إزاء “حماس”، وخصوصاً إذا لم تقترن بمرونة في موضوع الأسرى والمفقودين الذي وضعته إسرائيل كشرط لا يمكن العودة عنه، ومن خلال توضيح نيتها الربط بين المسألتين من الآن فصاعداً، واللتين كانتا موضع خلاف في الماضي.
فحص وسائل جديدة – غير مباشرة – للدفع قدماً بخطوات مدنية حيال القطاع، وخصوصاً تحويل المساعدة المالية القطرية من خلال أطراف في الأمم المتحدة أو السلطة الفلسطينية، مبالَغ فيها إلى حد ما. المقصود خطوات لا تساهم نظرياً وعملياً في تقوية نفوذ أبو مازن في القطاع؛ وتسمح لقطر بالاستمرار في أن تكون عامل تأثير خارجي مركزي في القطاع؛ وفي الأساس تساهم في تثبيت حُكم “حماس” والمحافظة على مكانتها كأمر واقع فترة طويلة من الزمن.
يتعين على إسرائيل الاستمرار في التمسك بالخط المتشدد الذي اتخذته مباشرة بعد انتهاء العملية ومطالبة يحيى السنوار بإظهار مرونة في موضوع الأسرى والمفقودين في مقابل أي خطوة مدنية مهمة حيال قطاع غزة، بكلمات أُخرى عليها أن تكون اللاعب الذي يملي شروط التسوية، لكن من جهة أُخرى، من دون الاستمرار في التمسك بالنظرية التي انهارت، والتي تقول إن تحسين الواقع المدني في المنطقة يجعل “حماس” تعي الثمن الباهظ لخسارته، ويقلص دوافعها إلى الدخول في مواجهة مع إسرائيل.
يجب أن نأخذ في الحسبان أن رد “حماس” على موقف إسرائيلي صارم سيكون تهديدات حادة – بدأنا نسمعها في الأيام الأخيرة – أو ارتفاعاً تدريجياً للعنف في القطاع. الأمر الذي سيجبر إسرائيل على الاستعداد لجولة تصعيد إضافية من المحتمل أن تحدث في وقت قريب، وهذه المرة عليها أن تدرس كيف يمكن أن تكون هي الطرف المبادر إلى المواجهة. مثل هذه المعركة يمكن أن يكبّد “حماس” خسارة ثمنها أكبر من تلك التي تكبدتها في عملية “حارس الأسوار” التي لم تتكبد فيها زعامة الحركة وطاقم قيادتها الرفيع المستوى ضرراً كبيراً، صحيح أن الحركة نفسها تكبدت خسائر على الصعيد العسكري، لكنها حققت إنجازات استراتيجية من خلال ترسيخ صورتها العامة في المنظومة الفلسطينية ونجاحها في تحريض الجمهور العربي في إسرائيل.
بهذه الطريقة تستطيع إسرائيل أن توضح لـ”حماس” بصورة أقوى الضرر الذي ينطوي عليه انتهاجها توجهاً استفزازياً كما برز في عملية “حارس الأسوار”، وردع الحركة بصورة عميقة عن الدفع قدماً بـ”مغامرات عسكرية” (هذا الردع كان موجوداً في الأعوام التي تلت عملية “الجرف الصامد”)، ويمكن أيضاً أن يؤدي ذلك إلى مرونة في مواقفها من موضوع الأسرى والمفقودين الذي يعتبره كثيرون “خطاً أحمر” جامداً وليس قراراً إنسانياً يمكن أن يتغير بحسب الظروف.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع